"على رسلك، فإنى أرجو أن يؤذن لي". فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال:"نعم". فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر -وهو الخبط- أربعة أشهر. قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبى بكر: هذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متقنعا -في ساعة لم يكن يأتينا فيها- فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
قالت: فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستأذن، فأذن له، فدخل فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبى بكر:"أَخرِجْ مَن عندك". فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإني قد أذن لي في الخروج. فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نعم". قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيّ هاتين. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بالثمن. قالت عائشة: فجهزّناهما أحثّ الجِهاز، وصنعنا لهما سُفرة في جِراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سُميت ذات النطاق. قالت: ثم لحق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر بغار في جبل ثَور، فكَمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثَقِف لَقِن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يُكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر مِنحة من غنم فيُريحها عليهما حين تذهب ساعة من العِشاء فيبيتان في رِسلٍ -وهو لَبنُ منحتهما ورضيفهما- حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغَلَس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالى الثلاث. واستأجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر رجلاً من
بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خِرّيتا -والخريت: الماهر بالهداية- قد غمس حِلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمِناه، فدفعا اليهود راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صُبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل.
(الصحيح ٧/٢٧١-٢٧٣ ح ٣٩٠٥ - ك مناقب الأنصار، ب هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه إلى المدينة) .