وَلَمْ يَزَلِ الشَّيْخُ عَلَى عَادَتِهِ الأُوْلَى فِي الوَعْظِ، وَنَشْرِ العِلْمِ وَكِتَابَتِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ.
قَالَ سِبْطُهُ أَبُو المُظَفَّرِ: جَلَسَ جَدِّي يَوْمَ السَّبْتِ سَابِعِ شَهْرِ رَمَضَانَ -يَعْنِي سَنَةَ سَبع وتسْعِيْنَ وَخَمْسِمَائَةَ- تَحْتَ تُرْبَةِ أمِّ الخَلِيْفَةِ المُجَاوِرَةِ لِمَعْرُوفٍ الكَرْخِيِّ، وَكُنْتُ حَاضِرًا، فَأَنْشَدَ أَبْيَاتًا، قَطَعَ عَلَيْهَا المَجْلِسُ، وَهِيَ هَذِهِ (١):
اللهَ أَسْأَلُ أَنْ يُطَوِّلَ مُدَّتِي … وَأَنَالُ بِالإنْعَامِ مَا فِي نِيَّتِي
لِيْ هِمَّةٌ فِي العِلْمِ مَا مِنْ مِثْلِهَا … وَهِي الَّتِي جَنَتِ النُّحُوْلَ هِيَ الَّتِي
خُلِقَتْ مِنَ القَلَقِ العَظِيْمِ إِلَى المُنَى … دُعيَتْ إِلَى نَيْلِ الكَمَالِ فَلَبَّتِ
كَمْ كَانَ لِيْ مِنْ مَجْلِسٍ لَوْ شُبَّهَتْ … حَالَاتُهُ لَتَشَبَّهَتْ بِالجَنَّةِ
اشْتَاقَهُ لَمَّا مَضَتْ أَيَّامُهُ … عَلَلًا وَتُعْذَرُ نَاقَةٌ إِنْ حَنَّتِ
يَا هَلْ لِلَيْلَاتٍ بِجَمْعٍ عَوْدَةٌ … أَمْ هَلْ إِلَى وَادِي مِنًى مِنْ نَظْرَةِ
قَدْ كَانَ أَحْلَى مِنْ تَصَارِيْفِ الصِّبَى … وَمِنَ الحَمَامِ مُغَنِّيًا فِي الأيْكَةِ
فيْهِ البَدِيْهَاتِ الَّتِي مَا نَالَهَا … خَلْقٌ بِغَيْرِ مُخَمَّرٍ وَمُبَيَّتِ
بِرَجَاحَةٍ وَفَصَاحَةٍ وَمَلَاحَةٍ … تَقْضِيْ لَهَا عَدْنَانُ بِالعَرَبِيَّةِ
وَبَلَاغَةٍ وَبَرَاعَة وَيَرَاعَةٍ … ظَنَّ النَبَاتِيْ أَنَّهَا لَمْ تَنْبُتِ
وَإِشَارَةٍ تُبْكِي الجُنَيْدَ وَصَحْبَهُ … فِي رِقَّةٍ مَا نَالَهَا ذُو الرُّمَّةِ
قَالَ أبُو شَامَةَ: هَذِهِ الأبْيَاتُ أَظُنُّهَا كَانَ نَظَمَهَا في أَيَّامِ مِحْنَتِهِ، إِذْ كَانَ مَحْبُوْسًا بِـ"وَاسِطَ"؛ فَمَعَانِيْهَا دَالَّةٌ عَلى ذلِكَ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ أبُو المُظَفَّرِ: ثُمَّ نَزَلَ عَنِ المِنْبَرِ، فَمَرِضَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَتُوُفِّيَ
(١) الأبياتُ في ذيل الرَّوْضَتَيْنِ (٢٥)، والسير (٢١/ ٣٧٨)، والمنهج الأحمد (٤/ ٣٦).