للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَسَّمَ الغِنَاءَ إِلَى قِسْمَيْنِ: مَمْدُوْحٌ وَمَذْمُوْمٌ، ثُمَّ رَقَّاهُ إِلَى رُتْبَةِ المَنْدُوْبَاتِ وَالعِبَادَاتِ، فَجَاوَزَ فِيْهِ حُدَاء الشِّعْرِ، وَلَمْ يَقُلْ ذلِكَ سِوَى هَذِهِ الطَّائِفَةِ المَسْؤُلِ عَنْهَا، الَّذِيْنَ سَلَكُوا مَسْلَكَ الجَاهِلِيَّةِ فِي جَعْلِهِ لَهُمْ صَلَاةً وَدِيْنا، وَحَاشَى نَاصِحَ الدِّيْنِ مِنِ اتِّبَاعِهِمْ.

وَمِنْهَا: أَنَّ قِسْمَتَهُ غَيْرُ حَاصِرَةٍ، فَإِنَّ ثَمَّ قِسْمًا آخَرَ، غَيْرُ مَمْدُوْحٍ وَلَا مَذْمُوْمٍ، وَهُوَ المُبَاحُ الَّذِي لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى الآخَرِ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ شَرَعَ مُسْتَدِلًّا علَى مَدْحِ الغِنَاءِ بِذِكْرِ الحُدَاءِ، شُرُوْعَ مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الحُدَاءِ وَالغِنَاءِ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ قَوْلِ الشِّعْرِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ. وَمَنْ هَذِهِ حَالُهُ لَا يَصْلُحُ لِلْفُتْيَا؛ فَإِنَّ المُفْتِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِاللِّسَانِ، لِسَانَ العَرَبِ وَلُغَتِهِمْ مِمَّا يُفْتِي فِيْهِ، وَظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ، لَكِنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَمَادِحُ الغِنَاءِ، فَعَدَلَ إِلَى مَا يُقَارِبُهُ، كَمَا قِيْلَ: "الأَقْرَعُ يَفْتَخِرُ بِجُمَّةِ ابْنِ عَمِّهِ" [وَ"ابْنُ الحَمْقَاءِ يَذْكُرُ خَالَتَهُ إِذَا عِيْبَ بِأُمِّهِ"] (١). لكِنَّهُ إِنْ كَانَ - بِسَعَادَتِهِ - قَدْ عَلِمَ بِذلِكَ، ثُمَّ قَصَدَ التَّمْوِيهَ عَلَى مَنِ اسْتَرْشَدَهُ، وَتَعْمِيَةَ مَنْ قَصدَهُ وَقَلَّدَهُ فَهُوَ حَرَامٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذلِكَ، لَكِنْ كَانَ عَنْ غَفْلَةٍ مِنْهُ فَهُوَ نَوْعُ تَغَفُّلٍ، وَذلِكَ عَجِيْبٌ مِنْ مِثْلِهِ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِحَدِيْثِ الجَوَارِي اللَّاتِي نَدَبْنَ آبَاءَهُنَّ، فَمَا فِيْهِ ذِكْرُ الغِنَاءِ، فَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَرْخَصَ لَهُنَّ فِي ذلِكَ، فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ مَا يُوْجِبُ المَدْحَ فِي حَقِّ عُقَلَاءِ الرِّجَالِ المُتَوَسِّمِيْنَ بِالدَّيْنِ وَالعِبَادَةِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ


(١) هُمَا مَثَلَانِ بِلا إِشكال، فَيَظْهَرُ أنَّهما مِنْ أَمْثَالِ العَوَامِّ في بِلادِ الشَّامِ آنذاك.