دِيْنٍ وَوَرَعٍ، وَكُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ الحَدِيْثَ وَهُوَ يَبْكِي، فَاسْتَفَدْتُ بِبُكَائِهِ أَكْثَرَ مِنِ استِفَادَتِي بِرِوَايَتِهِ، وَكَانَ عَلَى طَرِيْقَةِ السَّلَفِ، وَانْتَفَعْتُ بِهِ مَا لَم أَنْتَفِعُ بِغَيْرِهِ، وَدَخَلْتُ عَلَيْه فِي مَرَضِهِ - وَقَدْ بَلِيَ وَذَهَبَ لَحْمُهُ - فَقَالَ لِي: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُتَّهَمُ فِي قَضَائِهِ. وَقَالَ أَيْضًا: مَا رَأَيْنَا فِي مَشَايِخِ الحَدِيْثِ أَكْثَرَ سَمَاعًا مِنْهُ، وَلَا أَكْثَرَ كِتَابَةً لِلْحَدِيْثِ بِيَدِهِ، مَعَ المَعْرِفَةِ بِهِ، وَلَا أَصْبَرَ عَلَى الإِقْرَاءِ، وَلَا أَسْرَعَ دَمْعَةً، وَأَكْثَرَ بُكَاءً، مَعَ دَوَامِ البِشْرِ، وَحُسْنِ اللِّقَاءِ. وَقَالَ أَيْضًا: كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ الحَدِيْثَ مِنْ أَخْبَارِ الصَّالِحِيْنَ، فَكُلَّمَا قَرَأْتُهَا بَكَى وَانْتَحَبَ، وَكُنَّا نَنْتَظِرُهُ يَوْمَ الجُمُعَةِ بِجَامِعِ المَنْصُورِ، فَلَا يَجِيءُ مِنْ قَنْطَرَةِ "بَابِ البَصْرَةِ" وَإِنَّمَا يَجِيءُ مِنَ القَنْطَرَةِ العَتِيْقَةِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: تِلْكَ كَانَتْ "دَارَ ابنِ مَعْرُوفٍ القَاضِي" (١)، فَلَمَّا غَضِبَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ أَخَذَهَا وَبَنَى عَلَيْهَا القَنْطَرَةَ. قَالَ لَنَا: وَسَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ التَّمِيْمِيَّ يَحْكِي عَنِ ابْنِ معْرُوفٍ: أَنَّهُ أَحَلَّ كُلَّ مَنْ يَجُوْزُ عَلَيْهَا، إِلَّا أَنِّي أَنَا لَا أَفْعَلُ. قَالَ: وَكَانَتْ فِيْهِ خَلَّةٌ أُخْرَى عَجِيْبَةٌ: لَا يَغْتَابُ أَحَدًا، وَلَا يُغْتَابُ عِنْدَهُ، وَكَانَ صَبُوْرًا عَلَى القِرَاءَةِ عَلَيْهِ، يَقْعُدُ طُوْلَ النَّهَارِ لِمَنْ يَطْلُبُ العِلْمَ، وَكَانَ سَهْلًا فِي إِعَارَةِ الأَجْزَاءِ لَا يَتَوَقَّفُ، وَلَمْ يَكُنْ يَأُخُذُ أَجْرًا عَلَى العِلْمِ، وَيَعِيْبُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ، ويَقُوْلُ: عَلِّمْ مَجَّانًا، كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّانًا.
قُلْتُ: حَدَّثَ عَبْدُ الوَهَّابِ بِالكَثِيْرِ، وَسَمِعَ مِنْهُ خُلُقٌ عَظِيْمٌ. وَرَوَى عَنْهُ مِنَ الحُفَّاظِ وَالأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مِنْهُمْ: ابنُ نَاصِرٍ، وَالسِّلَفِيُّ،
(١) لَمْ أَقِفْ بَعْدُ عَلَى تَرْجَمَتِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute