وَكَانَ عَفِيْفًا مِنْ حُبِّ المَالِ، مُهِيْنًا لَهُ، بَاعَ جَمِيْعَ مَا وَرِثَهُ، وَكَانَ مِنْ أَبْنَاءِ التُّجَّارِ فَأَنْفَقَهُ فِي طَلَبِ العِلْمِ حَتَّى سَافَرَ إِلَى "بَغْدَادَ" وَ"أَصْبَهَانَ" مَرَّاتٍ مَاشِيًا يَحْمِلُ كُتُبَهُ علَى ظَهْرِهِ، سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: كُنْتُ أَبِيْتُ بِـ "بَغْدَادَ" فِي المَسَاجِدِ، وَآكُلُ خَبْزَ الدُّخْنِ. وَسَمِعْتُ أَبَا الفَضْلِ بنَ نَبْهَانَ (١) الأَدِيْبَ يَقُوْلُ: رَأَيْتُ الحَافِظَ أَبَا العَلَاءِ فِي مَسْجِدِ مِنْ مَسَاجِدِ "بَغْدَادَ" يَكْتُبُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رِجْلَيْهِ؛ لأَنَّ السِّرَاجَ كَانَتْ عَالِيَةً، ثُمَّ نَشَرَ اللهُ تَعَالَى ذِكْرَهُ فِي الآفَاقِ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ فِي قُلُوْبِ المُلُوْكِ وَأَرْبَابِ المَنَاصِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالعِلْمِيَّةِ وَالعَوَّامِّ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَمُرُّ بِـ "هَمَذَانَ"، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ رَآهُ إِلَّا قَامَ، وَدَعَا لَهُ حَتَّى الصِّبْيَانَ وَاليَهُوْدِ، وَرُبَّمَا كَانَ يَمْضِي إِلَى بَلَدِهِ "مُشْكَانَ" فَيُصَلِّي بِهَا الجُمُعَةَ، فَيَتَلَقَاهُ أَهْلُهَا خَارِجَ البَلَدِ؛ المُسْلِمُوْنَ عَلَى حِدَةٍ، وَاليَهُوْدُ عَلَى حِدَةٍ وَيَدْعُوْنَ لَهُ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ البَلَدَ، وَكَانَ يُفْتَحُ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا جُمَلٌ فَلَمْ يَدَّخِرْهَا، بَلْ يُنْفِقْهَا عَلَى تَلَامِذَتِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ رُسُوْمٌ لِأَقْوَامٍ، وَمَا كَانَ يَبْرَحُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِيْنَارٍ هَمَذَانِيَّةٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنَ الدَّيْنِ مَعَ كَثْرَةِ مَا كَانَ يُفْتَحُ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَطْلُبُ لِأَصْحَابِهِ مِنَ النَّاسِ، وَيُعِزُّ أَصْحَابَهُ وَمَنْ يَلُوْذُ بِهِ، وَلَا يَحْضُرُ دَعْوَةً حَتَّى يَحْضُرَ جَمَاعَةُ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ مِنْ أَمْوَالِ الظَّلَمَةِ، وَلَا قَبِلَ مِنْهُمْ مَدَرَةً قَطُّ، وَلَا رِبَاطًا، وَإِنَّمَا كَانَ يُقْرِئُ فِي دَارِهِ وَنَحْنُ فِي مَسْجِدِهِ سُكَّانٌ، وَكَانَ يُقْرِئُ نِصْفَ نَهَارِهِ الحَدِيْثَ، وَنصْفَهُ القُرآنَ وَالعِلْمَ، وَكَانَ لَا يَخْشَى السَّلَاطِيْنَ، وَلَا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ
(١) كَذَا في (أ) و (هـ) و (ط) وفي (ب) و (جـ) و (د): "بنيمان".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute