والأصح: أن دعوى العبد عند أبي حنيفة رحمه الله شرطهما، والتناقض لا يمنع صحة الدعوى فيهما؛ لأن طريقهما طريق الخفاء والتناقص فيما طريقه طريق الخفاء لا يمنع صحة الدعوى، إلا أن المرأة إذا اختلعت من زوجها على مهرها ونفقة عدتها، ثم أقامت بعد ذلك بينة أن الزوج قد كان طلقها ثلاثاً قبل الخلع قبلت بينتها، وإن صارت متناقضة في دعوى الطلقات الثلاث بالإقدام على الخلع، إنما كان كذلك؛ لأن الزوج ينفرد بإيقاع الطلاق الثلاث، ولا يتوقف ذلك على علم المرأة فكان طريقه طريق الخفاء، فجعل التناقض فيه عفواً، أو نقول: التناقض إنما يؤثر فيما يحتمل البعض بعد ثبوته، والعتق الأصلي والعارضي لا يحتمل البعض بعد ثبوته. ألا ترى أن التناقض في باب النسب لا يمنع صحة الدعوى وأن الملاعن إذا كذب نفسه ثبت النسب منه، فطريقه ما قلنا.
أمة بين رجلين شهد رجلان على أحدهما بعينه أنه أعتقها، وكذبته الأمة وادعت على الآخر الإعتاق وجحد الآخر، وحلف عند القاضي أنه ما أعتقها، فإنها تعتق بشهادة الشهود وإن لم يوجد منها الدعوى لما شهد به الشهود، فقد عرف أن الشهادة القائمة على عتق الأمة تقبل بدون الدعوى. ألا ترى أن الأمة إذا كانت كلها للمشهود عليه كانت تعتق بالشهادة بدون الدعوى.
فإن قيل: الأمة إذا كانت كلها للمشهود عليه إنما تقبل الشهادة بدون الدعوى؛ لأنها توجب حرمة الفرج، وهذه الشهادة لا توجب حرمة الفرج. قيل: الشهادة ثابته ههنا، قلنا: لا بل هذه الشهادة توجب حرمة الفرج؛ لأن قبل هذه الشهادة لم يكن فرجها حراماً على المعتق حرمة توجب الحد لو وطئها، وبعد هذه الشهادة حرم فرجها عليه حرمة توجب الحد لو وطئها، فكانت هذه الشهادة قائمة على تحريم الفرج من هذا الوجه.
وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن محمّد رحمه الله في رجل قال: كل مملوك أمكله أو اشتريته إلى سنة فهو حر، وحاجّه عبد له في ملكه يعني في ملك يوم اليمين أقام البينة على هذه اليمين (٣٣٢ب١) وقضى القاضي ثم اشترى الحالف عبداً في تلك البينة فخاصمه العبد المشتري إلى القاضي، فالقاضي يأمره بإعادة البينة، وهذا بلا خلاف، والمعنى ما أشار إليه ثمة أن البينة ما كانت للأول على قول: كل عبد أملكه. ولم أقبل البينة على غير ذلك.
ولو خاصمه عبد آخر كان في ملكه وقت اليمين فالقاضي لا يقضي بعتقه عند أبي حنيفة حتى (يقيم) العبد البينة، وعلى قول محمد يقضي بعتقه ولا يكلف إعادة البينة. وعلى هذا إذا قال: كل مملوك لي حر، وخاصمه عبد له في ملك ذلك، وأقام البينة على اليمين فقضى القاضي بعتقه، ثم خاصمه عبد آخر له فالقاضي هل يكلف إعادة الشهود؟ فهو على هذا الخلاف.
وكذا لو قال كل عبد أملكه إلى سنة فهو حر فاشترى عبداً في السنة، وخاصمه العبد عند القاضي، وأقام عليه بينة بهذه اليمين وقضى القاضي بعتقه، ثم اشترى عبداً آخر