أن المصر ليس بشرط باعتبار الحاجة، فإنه عسى تقع الحاجة إلى أن يخرج القاضي إلى محدود، ويسمع الدعوى ثمة، ويقضي هناك، وإذا أمر القاضي إنساناً بالقسمة في الرستاق، فقسم صحت قسمته باختلاف الروايات؛ لأن القسمة ليست من أعمال القضاء حتى يشترط لصحتها المصر في ظاهر الرواية، والله أعلم.
[الفصل الحادي والعشرون: في الجرح والتعديل]
ولا يسأل القاضي عن الشهود عند أبي حنيفة إلا أن يطعن الخصم فيهم، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يسأل عنهم من غير أن يطعن الخصم فيهم، وهذا في غير الحدود والقصاص، أما في الحدود والقصاص يسأل عنهم وإن لم يطعن الخصم فيهم، قيل: هذا اختلاف عصر وزمان، فأبو حنيفة رحمه الله كان في القرن الثالث الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، فكان الغالب فيهم العدالة، فبقي الحكم على الغالب، وهما كانا في القرن الرابع الذي شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم بالكذب، فكان الغالب فيهم الكذب، فأمر بالسؤال لهذا.
وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: ينبغي للقاضي أن يحكم زي الشهود وسيماهم، إن كان عليهم زي الصالحين عمل فيهم بقول أبي حنيفة، وإن كان عليهم زي الفسقة عمل فيهم بقولهما، وقيل لا بل هذا اختلاف على الحقيقة، حجتهما أن التعديل حق القاضي؛ لأن القاضي منهي عن القضاء بشهادة الفاسق، مأمور بالتثبت فيه، فلا يتوقف استيفاؤه على طلب الخصم قياساً على سائر الحقوق، ولأبي حنيفة رحمه الله الحديث المعروف وهو قوله عليه السلام:«المسلمون عدول بعضهم على بعض» ولأن الظاهر من حال المسلمين العدالة، والبناء على الظاهر واجب ما لم يعارضه ظاهر آخر، ففيما إذا طعن الخصم فيهم ظاهر آخر، فوجب السؤال بخلاف ما قبل الطعن، كان قضيته ما قلنا: أن الإنسان في الحدود وفي القصاص أيضاً إلا أنا إذا تركنا القياس، ثمة؛ لأن الظاهر لا يخلو عن نوع احتمال وشبهه، والحدود تدرأ بالشبهات، فشرطنا السؤال ثمة احتيالاً لدرئها قبل السؤال، فأما المال يثبت مع الشبهات؛ ولأن في الحدود لو وقع الخطأ لا يمكن التدارك بخلاف المال.
فلو أن الخصم عدل الشهود، فهذا على وجهين: أما إن عدلهم قبل أن يشهدوا عليه، فقال: هم شهود عدول، فلما شهدوا عليه أنكرهما، أو عدلهم بعدما شهدوا عليه، فإن عدلهم بما شهدوا عليه، فهو على وجوه: