وأما أبو حنيفة يقول: اجتمع ما يوجب أن يصير الاستصناع سلماً، وإنما قلنا ذلك؛ لأن اعتبار معنى الإجارة * إن كان * يمنع أن يكون سلماً واعتبار معنى البيع يوجب أن يكون سلماً فقد استويا.
وهنا اعتبار آخر يوجب أن يصير سلماً وهو أنا لو جوزناه سلماً ورجحنا جانب البيع كان ذلك تجويز هذا العقد على موافقة القياس من وجه؛ لأن المبيع حينئذٍ يثبت ديناً في الذمة وثبوت المبيع في الذمة على موافقة القياس وجه كما في السلم، فأما متى صار استصناعاً لم يكن المبيع في الذمة ديناً ولا عيناً، وهذا خلاف القياس من كل وجه، فصار ما يوجب صيرورته سلماً شيئان وما يمنع شيء واحد، فتكون العبرة لما يوجب.
ثم إذا صار سلماً لم يكن للمستصنع خيار الرؤية كما في سائر الأسلام لا يثبت خيار الرؤية، وإن اشترى ما لم يره، فرق بين هذا وبين بيع العين، فإن للمشتري في بيع العين خيار الرؤية وإنما كان كذلك، وذلك لأن إثبات خيار الرؤية الفسخ ولا يحصل هذاالمقصود متى اثبتنا خيار الرؤية في السلم، وذلك لأنه متى رد المقبوض بخيار الرؤية لا ينفسخ السلم؛ لأنه لم يرد عين ما تناوله العقد؛ لأن العقد لم يتناول هذا المقبوض بعينه، وإنما يتناول مثله ديناً في الذمة فلا ينفسخ العقد برده بل يعود حقه إلى مثله، وإذا لم يعد بموته وحكمه لا يثبت، وفي بيع العين يفيد ثمرته وحكمه؛ لأن حكمه الفسخ، والبيع ينفسخ متى رده بخيار الرؤية؛ لأنه رد عين ما تناوله العقد فينفسخ العقد برده، وإذا أفاد حكمه وثمرته يثبت.
[الفصل الخامس والعشرون: في البياعات المكروهة والأرباح الفاسدة وما جاء فيها من الرخصة]
قال مشايخنا: العرية التي فيها الرخصة ليس تفسيرها عندنا أن يشتري الثمار على رؤوس النخيل بثمار محدودة كيلاً أو مجازفة، فإن ذلك لا يجوز عندنا، وإنما تفسيرها أن يهب الرجل ثمرة نخيله من بستانه لرجل، ثم يشق على المعري دخول المعرى له في بستانه كل يوم ويكون أهله في البستان ولا يرضى من نفسه خلف الوعد والرجوع في الهبة، فيعطيه مكان ذلك تمراً محدوداً بالخرص يعني بالحزر والظن، ليدفع ضرورة عن نفسه ولا يكون مخالفاً للوعد وهذا جائز؛ لأن الموهوب لم يصر ملكاً للموهوب له ما دام متصلاً بملك الواهب، فما يعطيه من الثمر لا يكون عوضاً عنه يكون هبة مبتدأة لكن سمي بيعاً مجازاً؛ لأنه في الصورة عوض يعطيه للتحرز عن الخلف في الوعد.
فإن قيل: لو كان تفسير العرية ما قلتم ينبغي أن لا تقتصر الرخصة على ما دون خمسة أوسق، والراوي ذكرها مقصودة على ما دون خمسة أوسق، قلنا: عندنا الرخصة غير مقصورة إلا أن الراوي إنما ذكر الرخصة؛ لأن العرية التي وقعت كانت فيما دون خمسة أوسق، فظن الراوي أن الرخصة مقصورة فروى كما ظن.