يجب أن يعلم بأن الاستحلاف في الدعاوي مشروعة، ثبت شروعه بالسنة وهو قوله عليه السلام:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر» وقوله عليه السلام في قصة الحضرمي والكندي للمدعي منهما «ألك بينة» فقال: لا، فقال:«لك يمينه» والمعنى فيه: أن المدعى عليه أنوى حقه بإنكاره فالشرع شرع اليمين في جائز المدعى عليه حتى أن الأمر إن كان كما زعم المدعي كان هذا إتواء للمدعى عليه، لأن اليمين الكاذبة مهلكة للنفس والمال جميعاً فيكون إتواءان، وإن كان الأمر كما زعم المدعى عليه فالمدعى عليه بيمينه يدفع خصومة المدعي عن نفسه من غير ضرر يلحقه فيتحقق العدل والإنصاف، بعد هذا يحتاج إلى بيان موضع شرعيته وصفته وكيفيته.
أما بيان موضع شرعيته فنقول: الدعاوى نوعان: صحيحة وفاسدة، فالاستحلاف إنما يجري في الصحيحة منهما لا في الفاسدة، وإذا ادعى المدعي عند القاضي دعوى فعلى القاضي أن ينظر فيه، فإن كان فاسداً لا يلتفت إليه، وأمر المدعي بالكف عنه، وإن كان صحيحاً سمعه وأقبل على المدعى عليه، فإن أقر بما ادعاه المدعي ألزمه ما أقربه وإن أنكر أقبل على المدعي وقال له: إلك بينة؟، فإن قال: لا أو قال: شهودي غيّب أو مرضى حلّف المدعى عليه.
هكذا ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : قيل هذا السؤال إنما يستقيم على قول أبي حنيفة رحمه الله (لا يستقيم) على قولهما؛ لأن على قولهما القاضي يستحلف المدعى عليه بطلب المدعي وإن قال لي بينة حاضرة في المصر فلا فائدة لهذا السؤال على قولهما، وقال مشايخنا إذا قال المدعي: شهودي غيب أو مرضى إنما يحلف المدعى عليه إذا بعث القاضي أميناً من أمنائه إلى محلة الشهود الذين سماهم المدعي حتى يسأل عن الشهود، قال: وأخبر أنهم غيب أو مرضى أما بدون ذلك لا يحلفه على قول من لا يرى الاستحلاف إذا كان له بينة حاضرة في المصر؛ لأنه وقع الشك في الاستحلاف على قوله ثم بعد صحة الدعوى إنما يستحلف فيما سوى القصاص في النفس في موضع جاز القضاء بالنكول فيه، وفي كل موضع لا يجوز القضاء فيه، وبالنكوك لا يستخلف فيه وفي القصاص بالنفس يستحلف ولا يقضى فيه بالنكول تعظيماً لأمر الدم.