للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويروي عبادة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون رفع الصوت عند الجنائز والذكر، ففي حديث الحسن ذكر قراءة القرآن مقام الذكر، ولا تنافي بينهما، فاسم الذكر اسم عام يتناول الدعاء والتسبيح والتهليل، ويتناول الوعظ وقراءة القرآن فإن قراءة القرآن ذكر، بل هو أشرف الأذكار، قال الله تعالى: {ولذكر الله أكبر} (العنكبوت:٤٥) قال ابن عباس أي: ولتلاوة القرآن أكبر.

فأما رفع الصوت عند الجنائز فيحمل: أن المراد منه النوح وتمزيق الثياب، وخشن الوجوه، وذلك مكروه، ويحتمل أن المراد منه: أن يقوم رجلُ، بعدما اجتمع القوم للصلاة، ويدعو للميت، ويرفع صوته، وذلك مكروه؛ لأن السنة في الأدعية الخفية، ويحتمل: أن المراد منه ما كان عليه أهل الجاهلية من الإفراط في مدح الميت عند جنازته حتى كانوا يذكرون ما هو سببه المحال، وأما رفع الصوت عند الذكر، فإن كان المراد من الذكر الدعاء، فإنما كره ذلك؛ لأن الأصل في الأدعية الخفية، ولأن فيه رياء، ولأجل هذا كره رفع الصوت بالتسبيح والتهليل.

وإن كان المراد منه الوعظ، فليس المراد رفع الواعظ صوته عند الوعظ، وإنما المراد رفع بعض القوم صوته بالتهليل والصلاة على النبي عند ذكره. وقد صح (أنه) قيل لابن مسعود رضي الله عنه: إن قوماً اجتمعوا في مسجد يهللون ويصلون على النبي عليه السلام، ويرفعون أصواتهم، فذهب إليهم ابن مسعود، وقال: ما عهدنا هذا على عهد رسول الله، وما أراكم إلا مبتدعين، فما زال يذكر ذلك حتى أخرجهم من المسجد.

وإن كان المراد قراءة القرآن، فإنما كره رفع الصوت بها؛ لأنه ينافي الخشوع، ولأن فيه رياءً، ولأن فيه منع غيره عن شغله، فإنه يلزمه الاستماع، وقيل: المراد منه المستمع؛ يعني أن المستمع إذا سمع آية فيها ذكر النار، فتعوذ بالله من النار، ورفع صوته، وذلك مكروه، أو القارىء ينقل ذلك، ويرفع بها صوته، وذلك مكروه لما ذكرنا أن السنة في الأدعية الخفية، ومن قال من المشايخ: إن ختم القرآن بالجماعة جهراً يسمى بالفارسية؛ «سي ياره خواندن» مكروه، تمسك بالحديث الذي رواه الحسن، ولما روى قيس عن أصحاب رسول الله عليه السلام؛ إن كان المراد من الذكر قراءة القرآن، والمعنى ما ذكرنا.

المسائل المتفرقات من هذا الفصل: إذا أراد أن يصلي أو يقرأ القرآن، ويخاف أن يدخل عليه الرياء؛ لا يترك القراءة والصلاة لأجل ذلك، وكذا في جميع الفرائض، ولو افتتح الصلاة يريد بها وجه الله، ثم دخل الرياء بعد ذلك في قلبه، فالصلاة على ما أسس؛ لأن التحرز عن هذا غير ممكن.

ولا بأس للجنب أن يكتب القرآن إذا كانت الصحيفة على الأرض، ولا يضع يده عليها. وقال محمد رحمه الله: أحب إلي أن لا يكتب إن كانت الصحيفة على الأرض، ولا يضع يده عليها، والآية وما دونها في تحريم الكتابة سواء على رواية محمد؛ لأن الكتابة بمنزلة القراءة، والآية وما دونها في تحريم القراءة سواء على رواية محمد، فكذا الكتابة.

<<  <  ج: ص:  >  >>