كان الكل مدركة فصح شرط الترك عنده، وإن كان يتأخر إدراك البعض تأخراً كثيراً فالبيع جائز فيما أدرك ولم يجز في الباقي، وهذا إنما يكون في العنب غالباً؛ لأن بلوغ الأسود منه يتقدم ويتأخر كثيراً، فيصير كالجنسين إذا بلغ أحدهما ولم يبلغ الآخر، فيجوز بيع ما قد بلغ عنده بشرط الترك دون ما لم يبلغ لما عرف من أصله.
وإذا اشترى الرجل عنب كرم على أنه ألف منٍ فلم يخرج منه إلا قدر تسعمائة، فللمشتري أن يطالب البائع بحصة مائة مَنَ من الثمن؛ لأن البيع بقدر المائة المَنَ لم يصح لمكان العدم وصح بقدر التسعمائة المَنِّ فيطالب البائع بحصة ما لم يصح فيه البيع.
قالوا: على قياس قول أبي حنيفة: ينبغي أن يفسد العقد في الباقي؛ لأن العقد فسد في البعض بمفسد مقارن للعقد وهو العدم، والأصل عنده: أن العقد متى فسد في البعض بمفسد مقارن للعقد يفسد العقد في الباقي، وكان القاضي أبو الحسين قاضي الحرمين يروي عن أبي حنيفة في جنس هذا أن العقد فاسد في الكل، وبه كان يقول شمس الأئمة الحلواني وعليه كثير من المشايخ، وكان شمس الأئمة السرخسي يقول: بأن العقد فيما وجد صحيح عند الكل؛ لأن البائع ما ضم المعدوم إلى الموجود في البيع بل باع الموجود، وظن أنه مقدار معين وتبين أنه لم يكن ذلك المقدار، ولهذا لا يصير بائعاً، وسيأتي جنس هذه المسألة بعد هذا إن شاء الله.
وفي «النوازل» : إذا قال الرجل لغيره: بعت منك عنب هذا الكرم (كل) وقر بكذا، والوقر معروف لهم، فهذا على وجهين: أما إن كان العنب من جنس واحد، وفي هذا الوجه يجوز البيع في الكل ذكر مطلقاً من غير ذكر خلاف.
قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : يجب أن يكون المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة رحمه الله: يجوز في وقر واحد، وعلى قولها: يجوز في الكل بناء على مسألة الصبرة إذا قال لغيره: بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم على قول أبي حنيفة: يجوز في قفيز واحد، وعندهما: يجوز في الكل، قال رحمه الله: والفتوى على قولهما تيسيراً للأمر على الناس، وإن كان العنب أجناساً مختلفة فعلى قول أبي حنيفة ينبغي ألا يجوز أصلاً، وعلى قولهما: يجوز في الكل.
وفي «النوازل» أيضاً: وإذا باع أوراق الشجرة وقد ظهرت على الشجر بثمن معلوم وقبض الثمن ولم يأخذ المشتري الأوراق حتى ذهب وقتها، فأراد الرجوع بالثمن، فإن كانت الأوراق بأغصانها وكان موضع القطع معلوماً ليس له الرجوع؛ لأنه قادر على قبض المشترى بالقطع إلا أنه إذا كان في القطع فساد الشجر تخير البائع: إن شاء رضي بالقطع، وإن شاء نقض البيع.
قال الصدر الشهيد: وهذا هو المختار في مسألة بيع الاشجار التي تقدم ذكرها، فإن كان اشترى الأوراق بدون الأغصان كان له الرجوع بالثمن؛ لأنه لما بقي إياماً يفسد البيع؛ لأنه لا بد وأن يخرج شيء من الأوراق في هذه المسألة، فيتخلط المبيع بغير المبيع وكذلك بيع ثمار الاشجار على هذا.