وإنما معناه إقامة البينة على الهبة والقبض، وإنما قبلت هذه البينة بعد التوفيق على هذا الوجه؛ لأن التوفيق يزيل المخالفة، ويكون ذلك ابتداء الدعوى الهبة من حيث الحقيقة.
فإن قيل: ينبغي أن لا تقبل البينة على الهبة؛ لأنه يدعي هبة فاسدة، فانه ادعى أنه وهبه ملكه، فإنه يملكه بالشراء، والشراء لا ينفسخ بجحود أحد المتبايعين، قلنا: البائع قد جحد البيع وجحود أحد المتبايعين فسخ للعقد، فكأن البائع قال: فسخت البيع، فيقف على قبول المشتري، فلما استوهبه منه المشتري فقد أجابه إلى الفسخ؛ لأنه لا صحة للهبة منه إلا على تقدير فسخ الشراء بمقتضي طلب الهبة من المشتري، فانفسخ الشراء فيما بينهما، وصار المدعى عليه واهباً ملك نفسه، فكانت الهبة صحيحة.
وقال في «الجامع الصغير» : رجل ادعى داراً في يدي رجل أنه وهبها له وسلمها إليه في وقت كذا، فسأله القاضي البينة قال: إنه جحدني الهبة، فاشتريتها منه في وقت كذا، ذكر وقتاً قبل الوقت الذي ادعى فيه الهبة وأقام على ذلك بينة قُبلت بينته؛ لأنه في (١٥١ب٤) الوجه الاول التوفيق بين الكلامين لا يمكن إذ لا يمكنه أن يقول وهبها لي في الوقت الذي ادعيت الهبة، ثم جحد لي الهبة فاشتريتها منه قبل ذلك الوقت، وإذا لم يكن التوفيق ظهر التناقض، والناقض مانع صحة الدعوى، فأما في الوجه الثاني فالتوفيق ممكن، فلا يظهر التناقض فتصح الدعوى.
فإن قيل: ينبغي أن لا تصح دعواه في الوجه الثاني، لأنه ادعى شراء باطلاً؛ لأنه ادعى شراء ما ملكه بالهبة، قلنا: الواهب لما جحد الهبة فقد فسخها؛ لأن جحود ما عدا النكاح من العقود فسخ له، فانفسخت الهبة في حقه وتوقف في حق الموهوب له على إجازته، فإذا طلب الشراء منه فقد أجاز ذلك الفسخ فانفسخت الهبة في حقهما وصار المشتري مشترياً ما ليس بملك له فصح.
فإن لم يذكر للشراء تاريخاً، لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الجامع الصغير» ، وفي كتاب «الأقضية» ذكر عين هذه المسألة في الصدقة وأجابه في هذا الفصل أنه تقبل بينته؛ لأن التوفيق ممكن؛ لأن الشراء حادث، فيحال بحدوثه على أقرب الأوقات، وهو ما بعد تاريخ الصدقة، فكأنه ادعى الشراء بعد تاريخ الصدقة وعند إمكان التوفيق لا يظهر التناقض، هذا أصل كبير لأصحابنا رحمهم الله.
وفي «الأصل» : وإذا كانت الدار في يدي رجل، جاء رجل وادعى أنها داره ورثها من أبيه منذ سنة، وأقام البينة أنه اشتراها من الذي في يديه منذ سنتين والمدعي يدعي ذلك، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة، ولا يقضى بالدار للمدعي، لأنه ادعى الملك في جميع هذه الدار منذ سنة بالشراء، وادعى الملك في جميعها منذ سنة بالميراث أيضاً، والإنسان لا يتصور أن يكون مالكاً لعين واحد في وقت واحد بالشراء والإرث، وإنما يكون مالكاً له بأحد السببين، ولا يُدْرى ذلك فبطلا جميعاً، فتبقى الشهادة بدون الدعوى.
فإن وَفَّق المدعي فقال: كنت اشتريتها منذ سنتين من ذي اليد، كما شهد الشهود ثم بعتها من أبي، ثم ورثتها من أبي منذ سنة، متى وفق على هذا الوجه وشهد الشهود