وقول من قال: بأن القضاء بهما متعذر لأنهما يثبتان معاً في وقت واحد، لأن القاضي يقضي بهما في وقت واحد. والقضاء بإيجاب الدين والبراءة في وقت واحد باطل، يشكل بمسألة ذكرها في باب الرجوع عن النكاح والطلاق: وصورتها: إذا شهد شاهدان على رجل بالنكاح والطلاق جميعاً بمهر ألف ومهر مثلها خمسمئة، وشهد آخران بالطلاق قبل الدخول بها، فالقاضي يقضي بالنكاح والطلاق جميعاً، وإنما يقضي بهما في وقت واحد ومع هذا جاز.
وطريقه: أن بقضاء القاضي لا يقع النكاح والطلاق معاً إذ لا يتصور وقوعهما معاً، وإنما يقعان مرتباً على الوجه الذي يتصور، فكذلك البراءة لا تتصور إلا بعد وجوب الدين فلا تقعان معاً لو قضى القاضي بهما وإنما يقعان مرتباً، علمنا أن بطلان بينة المدعي بسبب إقرار المدعى عليه.
فإن قيل: إذا ثبت إقرار المدعى عليه بدعواه البراءة كان يجب أن يقال: بأن شهود البراءة إذا رجعوا يضمنون للمدعي؛ لأن الدين وجب بإقرار المدعى عليه، ثم سقط بشهادتهما بالبراءة مع هذا لا يضمنون، والجواب أن يقال بأن الدين وجب على المدعى عليه بإقراره في حق صحة البراءة؛ لأن البراءة لا تكون إلا بعد وجوب الدين، ولكن لا يقضي بالإيجاب في حق الاستيفاء، لأن الاستيفاء يكون بعد الوجوب، لأن إثبات حق الاستيفاء مع البراءة لا يتصور، وإذا لم يثبت الدين في حق الاستيفاء (١٥٩أ٤) لم يصر شاهدا البراءة متلغين على صاحب المال شيئاً، فلا يضمنون، إلا أن يقيم المدعي البينة ثانياً أن له على المدعى عليه ألف درهم بحضرة شهود الإبراء، فإذا شهدوا بذلك ضمن شاهدا البراءة الدين للمدعي، وذلك لأن القاضي يقضي بإيجاب الدين على المدعى عليه في حق شاهدي البراءة؛ لأن الشهادة بالبراءة قد بطلت في حق شاهدي البراءة بالرجوع؛ فيمكن القضاء بإيجاب الدين في حق الشهود حتى يضمنان بالبراءة، ولكن لا يقضى بإيجاب الدين في حق المدعى عليه؛ لأن الشهادة بالبراءة قائم في حقه، لأن الرجوع عن البراءة في حقه لم يصح، وإذا أمكن القضاء بإيجاب الدين في حق الضمان على شهود الإبراء وجب القضاء، وإذا وجب القضاء صار الدين واجباً في حق شهود الإبراء، ثم سقط بشهادتهما بغير عوض فيضمنان للمدعي إذا رجعا، ويشترط حضرة الشهود وهي شهود الإبراء في إقامة البينة على الدين، لا حضرة المدعى عليه؛ لأن الاستحقاق بهذه البينة على شهود الإبراء لا على المدعى عليه، فيشترط حضرة شهود الإبراء لا حضرة المدعى عليه من هذا الوجه.
قال في كتاب الرجوع: رجل مات وترك عبداً قيمته ألف درهم لا مال له غيره، وقد كان أوصى بعتقه، فشهد شاهدان من ورثة الميت لرجل آخر بدين خمسمئة على الميت؛ لم تقبل الشهادة ويعتق العبد ويسعى في الثلثين ويأخذ الغريم دينه من نصيب الوارثين.
ولو شهدا بدين ألف درهم حتى كان مستغرقاً للتركة، جازت الشهادة وبيع العبد في الدين.
والفرق بينهما: أن العدل متى جر إلى نفسه مغنماً كان لا يستحق ذلك إلا بشهادته،