قال: وإذ باع الرجل جارية من رجل، ثم غاب المشتري، ولا يدري أين هو، فرفع البائع الأمر إلى القاضي وطلب منه أن يبيع الجارية ويوفي منه، فإن القاضي لا يجيبه إلى ذلك قبل إقامة البينة؛ لأنه يدعي حقاً على الغائب، وليس عنه خصم حاضر، ولأنه يجوز أن يكون غاصباً لهذه الجارية احتال بهذه الحيلة ليبرئ نفسه عن ضمانها وتسقط النفقة عن نفسه فلا يتعرض القاضي لما قاله البائع من غير بينة، ولأنه يدعي إيجاب حفظ على القاضي في هذا الحال؛ لأنه يزعم أنه مال الغائب وأنه مما يخشى عليه التلف وعلى القاضي حفظ مال الغائب إذا كان يخشى عليه التلف فكان على القاضي أن لا يلتزم الحفظ إلا ببينة.
وهو نظير رجل جاء به إلى القاضي، وقال: هذه لقطة فبعها، فإن القاضي لا يبيعها حتى يقيم البينة على ذلك؛ لأنه يدعي إيجاب حفظ على القاضي، فكان للقاضي (أن) لا يصدقه إلا ببينة، كذا ههنا، قال: فإن أقام البينة على ذلك ذكر أن القاضي يبيع الجارية على المشتري بنقد الثمن على البائع، واستوثق من البائع بكفيل ثقة وهذا الذي ذكر جواب الاستحسان والقياس أن لا يسمع هذه البينة، ولا يبيع الجارية على المشتري، نص على هذا القياس والاستحسان في «الجامع الكبير» في كتاب الإجارات في باب الاختلاف بين اثنين في نظير هذه المسألة.
وجه القياس في ذلك ظاهر إن هذا بينة قامت على إثبات حق على الغائب وليس عن الغائب خصم حاضر لا قصدي ولا حكمي فوجب أن لا تقبل قياساً على ما إذا كان يعرف مكان المشتري، وقياساً على من أقام بينة على إثبات حق على الغائب لا يعرف مكانه لينزع شيئاً مما في يد الغائب، فإن في هاتين الصورتين لا تقبل هذه البينة وإنما تقبل هذه البينة لما قلنا.
وجه الاستحسان: أن البائع عجز عن الوصول إلى الثمن من جهة المشتري إذا كان لا يعرف مكانه، وعجز عن الانتفاع بالمبيع؛ لأنه مال غيره، واحتاج إلى أن ينفق عليه ما لم يحضر المشتري، وربما باقي النفقة على الثمن وزيادة متى انتظر القاضي حضور المشتري فمتى لم يسمع هذه البينة من البائع أدى إلى إبطال حقه، والقاضي انتصب ناظراً لإحياء حقوق الناس، فكان للقاضي أن يسمع هذه البينة ليدفع الضرر والبلية التي ابتلي بها البائع، لأن على القاضي دفع البلية عن الناس ما أمكنه، بخلاف ما إذا كان يعرف مكان البائع؛ لأنه كان يمكنه دفع الضرر والبلية عن البائع، بأن يأمره بالذهاب إلى حيث كان المشتري وإقامة البينة عليه، وبخلاف ما إذا ادعى حقاً على غائب لا يعرف مكانه وأراد أن يقيم البينة على ذلك لينتزع شيئاً من مال الغائب، فإن القاضي لا يسمع ذلك منه، وذلك لأن القياس في مسألة البيع أن لا تسمع البينة على الغائب؛ لأنه ليس عنه خصم حاضر، إلا أنا تركنا القياس فيها بإجماع العلماء على ذلك، فإنا والشافعي أجمعنا أن في هذه المسألة تسمع بينة البائع إذا كان لا يعرف مكان المشتري، وما ثبت بالإجماع بخلاف القياس لا يقاس عليه غيره والإجماع المنعقد في هذه المسألة لتندفع البلية التي