وقد ذكر الناطفي في «أجناسه» : أن القاضي يقبل هذه البينة ويدفع دعوى المدعي، والوجه لما ذكره الناطفي: أن دعوى المدعى عليه بيع المدعي من فلان، وكل بائع مقر بالملك للمشتري منه بمنزلة دعواه إقرار المدعي بأن هذا العين ملك لفلان، ولو ادعى إقرار المدعي أن هذا العين ملك فلان، وأقام على ذلك بينة، يسمع ذلك منه، وتندفع خصومة المدعى عليه؛ كذا هنا.
وعلى هذا القياس: إذا ادعى ديناً على ميت بحضرة وارثه، وأنكر الوارث التركة، فعين المدعى عليه عيناً من الأعيان، وقال: هذا من تركته، فقال الوارث: إن الميت قد كان باع هذا العين في حياته من فلان دفعاً صحيحاً؛ حتى لو أقام البينة على ذلك تندفع دعوى المدعي.
حكي عن الشيخ الإمام نجم الدين النسفي أنه قال: عرض علي محضر فيه دعوى رجل على رجل أرض إنها ملكه وحقه، وإن مورث المدعى عليه أحدث يده عليها بغير حق إلى أن مات، وفي يد وارثه هذا بغير حق أيضاً، فواجب قصر يده عنها وتسليمها إلى هذا المدعي، وأقام على ذلك بينة بعد إنكار المدعى عليه دعواه، وقال المدعى عليه في دفع دعواه: إن مورثنا فلان كان اشترى هذا المحدود من مورث هذا المدعي بيعاً باتاً وتقابضا، وكان في يده بحق إلى أن توفي، ثم صار ميراثاً لي عنه بحق، فقال المدعي في دفع هذا الدفع: إن مورث المدعى عليه كان أقر أن البيع الذي جرى بيننا كان بيع وفاء وارد على الثمن على رد الأرض، وأقام بينة على ذلك؛ هل يصح دفع الدفع على هذا الوجه؟
وقد كان أجاب قاضي القضاة عماد الدين علي بن عبد الوهاب، والشيخ الإمام الزاهد علاء الدين عمر بن عثمان: أنه صحيح، وإني أجيب أنه غير صحيح؛ لأنه ادعى أولاً أنه كان في يده بغير حق؛ وأنا أقول: يجب أن تصح دعوى الدفع على قول من يقول: بأن لبيع الوفاء حكم الرهن؛ لأنه إقرار ببعض ما أنكره له أولاً، وهو كون الأرض في يده بغير حق، وهذا لأنه لما كان لهذا حكم الرهن كان المبيع على ملك المدعي، إلا أن المدعى عليه حضر، وقد ادعى المدعي أولاً، وهو كون الأرض في يده بغير حق، فإذا أقر بعد ذلك ببيع الوفاء، فقد ادعى أن الملك له، وادعى أن يد المدعى عليه بحق.
فهو معنى قولنا: إنه أقر له ببعض ما أنكره له أولاً، إلا أن بعدما أقر ببيع الوفاء لا يمكنه مطالبة المدعى عليه بتسليم الأرض، ولا تقبل بينته على تسليم الأرض، وإنما تقبل بينته على ملكية الأرض، وعلى قول عامة المشايخ: إن لم يكن الوفاء مشروطاً في البيع، فالبيع صحيح، ولا يكون هذا دفعاً، وإن كان الوفاء مشروطاً في البيع كان البيع فاسداً، فإن ادعى فسخ العقد يصح الدفع، وما لا فلا.
ذكر شيخ الإسلام في «شرح الجامع» في باب من القضاء: ادعى على آخر داراً في يديه، فأقام المدعى عليه بينة على إقرار المدعي أن الدار ليست ملكاً لي، أوما كانت لي، اندفعت بينة المدعي.