والمتأخرون اعتبروا الخلوص بشيء آخر، فعن أبي نصر محمد بن سلام رحمه الله أنه قال: إن كان الماء بحال لو اغتسل فيه وتكدّر الجانب الذي اغتسل فيه وصلت الكدرة إلى الجانب الآخر فهو مما يخلص بعضه إلى بعض، وأبو حفص الكبير رحمه الله اعتبر الخلوص بالصبغ فقال يلقى فيه الصبغ من جانب، فإن أثر الصبغ في الجانب الآخر فهو مما يخلص بعضه إلى بعض.
وأبو سليمان الجوزجاني رحمه الله كان يقول: إن كان عشراً في عشر فهو مما لا يخلص بعضه إلى بعض، وإن كان أقل من ذلك فهو مما يخلص، وعن محمد رحمه الله في «النوادر» أنه سئل عن هذه المسألة فقال: إن كان مثل مسجدي هذا فهو مما لا يخلص بعضه إلى بعض، فلما قام مسح مسجده فكان ثمان في ثمان في رواية، وعشراً في عشر في رواية، واثني عشر في اثني عشر في رواية، وأكثر مشايخ بلخ على أنه إن كان خمسة عشر في خمسة عشر لا تبقى فيه شبهة، وإن كان ثمانية يحتاط فيه، وعامة المشايخ أخذوا بقول أبي سليمان وقالوا: إذا كان عشراً في عشر فهو كبير، وبعضهم اعتمدوا على التحريك لأنه تعذر اعتبار الكدرة والصبغ لأن في النجاسة ما (لا) يرى نحو البول والخمر، فيصل إلى الجانب الآخر قبل وصول اللون والكدرة إليه لأن قدر الصبغ يتفاوت، والكدرة قد تكون وقد لا تكون وتعذر اعتبار المساحة لأن الروايات فيه اختلفت عن محمد، وقد صح أنه رجع عنه فيعتبر التحريك.
بعد هذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يعتبر التحريك بالاغتسال لأن حاجة الإنسان إلى الغسل في المياه الجارية والحياض أكثر من حاجته إلى الوضوء، فإن الوضوء يكون في البيوت غالباً.
وفي رواية أخرى عنه يعتبر التحريك بالوضوء لأن التحريك بالوضوء أخف، ومبنى الماء في حكم النجاسة على الخفة دفعاً للضرورة، فإن القياس أن يتنجس الكثير، ولكن سقط حكم النجاسة عن الكثير تخفيفاً فلما اعتبر التخفيف في أصل الماء كنّا نعتبر التخفيف في التحريك، وعن محمد رحمه الله أنه يعتبر التحريك بغسل اليد لأن التحريك باليد أخف.
قال مشايخنا: وإنما يعتبر تحريك الجانب الآخر من ساعته لا بعد المكث، ولا يعتبر نفس التحرك وحباب الماء، فإن الماء وإن كثر يعلو الحباب ويتحرك، وإنما الشرط أن يرتفع وينخفض من الجانب الآخر من ساعته، وبنحوه روى الحسن عن أبي حنيفة.
جئنا إلى بيان مقدار العمق فنقول: ذكر المعلى في «كتابه» : أنه ينبغي أن يكون عمقه قدر ذراعين، وهذا على قول من يعتبر التحريك بالاغتسال لأن على قوله: ينبغي أن يكون الماء بحال يتأتى فيه الاغتسال وذلك قدر ذراعين. وقال بعضهم قالوا: اشترط أن يكون بحال لو رفع إنسان الماء بكفيه لا ينحسر ولا يظهر ما تحته، وقال بعضهم: يشترط أن يكون بحال لو حُرك وجه الماء لا يتكدر ماء وجه الأرض.
وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد أبي بكر بن حامد رحمه الله أنه قال: قدّر مشايخنا العمق بأربعة أصابع مفتوحة.