قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا أراد الآفاقي دخول مكة ينبغي له أن يحرم من الميقات بحجة أو عمرة سواء دخل مكة مريداً النسك، أو دخلها لحاجة من الحوائج، ومن كان أهله في الميقات، أو داخل الميقات جاز له دخول مكة بغير إحرام لحاجة من الحوائج، وكذا من كان من أهل مكة وخرج منها لحاجة من الحوائج، وكذا من دخل مكة منها لحاجة له إلى ذلك نحو الاحتطاب، وما أشبهه جاز له أن يدخلها بغير الإحرام.
والأصل فيه ما روي أن رسول الله عليه السلام قال في خطبته عام فتح مكة:«ألا إن مكة حرام حرّمها الله تعالى يوم خلق السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة» ، وأراد بقوله:«لا تحل لأحد من بعدي» حلّ الدخول بغير إحرام، لأن قوله:«لا تحل لأحد بعدي» الصرف إلى ما انصرف إليه المراد من قوله: «أحلت لي ساعة من نهار» حلّ الدخول بغير إحرام، فإنه دخلها بغير إحرام؛ لأجل القتال في الحرم؛ لأن القتال مع أهل الحرب في الحرم حلال على كل حال، فهذا الحديث لا يوجب الفصل بين الآفاقي، وبين أهل مكة، ومن كان أهله داخل الميقات لكن دخل عنه أهل الميقات وأهله بمكة لمكان الحرج، فإنه يتكرر دخول أهل الميقات، ومن كان داخل الميقات بمكة لإقامة الحرج بمكة، وكذا يتكرر دخولهم؛ لأنه مكرر خروجهم لإقامة المصالح خارج مكة، فلو أوجبت الإحرام عند كل دخول لوقعوا في الحرج، فأما أهل الآفاق فلا يتكرر دخولهم مكة، فإيجاب الإحرام عليهم عند الدخول لا يوقعهم في الحرج، ويبقى أهل الآفاق داخلين تحت الحديث.
ثم إذا دخل الآفاقي مكة بإحرام، وهو لا يريد الحج ولا العمرة، فعليه الدخول مكة إما حجة أو عمرة لزمه الإحرام إذا بلغ الميقات على قصد دخول مكة، والإحرام إنما يكون بحجة أو عمرة، فلزمه الإحرام بأحدهما، وما وجب على الإنسان لا يسقط إلا بأدائه، فإن أحرم بالحج أو العمرة من غير أن يرجع إلى الميقات، فعليه دم لترك حق الميقات، وإن عاد إلى الميقات، وأحرم فهذا على وجهين:
إن أحرم بحجة أو عمرة عما لزمه خرج عن العهدة، وإن أحرم بحجة الإسلام، أو عمن كاتب عليه إن كان ذلك في عامه أجزأه عما لزمه لدخول مكة بغير إحرام استحساناً، وإن تحولت السنة وباقي المسألة بحالها لم يجزئه عما لزمه لدخول مكة بغير إحرام، وهذا لأن حق الوقت ينادي بإحرام حجة الإسلام جاز فيما بقي وقت لإحرام حجة الإسلام، فوقت ما يجب بسبب الوقت باقي فلا يصير ديناً في ذمته، فإن عاد إلى الميقات، وأحرم بحجة الإسلام فقد أدى حق الوقت، فأما إذا تحولت السنة، فقد فات وقت الإحرام بحجة الإسلام، وفات (١٧٢أ١) وقت ما يجب بسبب الوقت، فيصير ذلك ديناً عليه مقصوداً،