منه في جميع ذلك، يريد به إذا أخبره واحد بنجاسة الماء، وجماعة بطهارته، وفيهم واحد ثقة، فإنه يتحرى، وإن لم يقع تحريه على شيء فلا بأس بالتوضؤ به.
فرق بين هذا وبينما إذا عدّل الشاهد واحد وجرحه واحد، فإنه يؤخذ بقول الجارح، ولايبقى ما كان على ما كان.
والفرق: أن الجارح فيما جرح اعتمد العيان بارتكاب المحظور، وارتكاب المحظور مما يعاين، فأما المعدل اعتبر استصحاب الحال؛ لأنه نفى أسباب الحرج ما لم يعلم حقيقة، فكان خبر من اعتمد الدليل أولى، وأما ههنا كل واحد منهما فيما أخبر اعتمد دليلاً؛ لأن طهارة الماء ونجاسته تعلم حقيقة بالدليل في الجملة، وكذلك حل الطعام وحرمته، فإذا وقع التعارض والاستواء، وأحدهما كاذب بيقين، والآخر صادق؛ تساقط الخبران، ووجب التمسك بالأصل.
فإن قيل: وجب أن يترجح قول من يخبر بالنجاسة والحرمة كما في رواية الإخبار؛ قلنا: في رواية الإخبار إنما يؤخذ برواية الحرمة؛ لأنه لما جعل التاريخ جعل كأن الخبرين كانا، وصار أحدهما ناسخاً للآخر، وإنه ممكن أو يجوز أن يكون الشيء حلالاً، ثم يصير حراماً، وكذا يجوز أن يكون حراماً، ثم يصير حلالاً، إلا إن جعل الخبر المحرم ناسخاً أولى لما فيه من تعليل النسخ؛ لأنه ينسخ به الإباحة الثانية بالخبر المبيح لا غير، ولو جعل الخبر المبيح ناسخاً بنسخ الحرمة الثانية بالخبر المحرم بعد انتساخ الإباحة الأصلية بالخبر المحرم، وكان جعل الخبر المحرم ناسخاً، وفيه تعليل الفسخ أولى؛ أما ههنا لا يمكننا أن نجعل كلا الأمرين كأنهما كانا، فإنه متى ذبح هذه الشاة مجوسي، أو وقع في الماء نجاسة لا يتصور أن يكون الماء طاهراً، وتكون ذبيحة مسلم، فكان الثابت أحدهما، ولا يدرى ذلك لمكان التعارض فتساقطا.
فإن كان الذي أخبره بالحل مملوكين ثقتين، والذي أخبره بالحرمة حر واحد، فلا بأس بأكله؛ لأن في الخبر الديني الحر والمملوك سواء، ولا يقع التعارض بين الواحد وبين الاثنين في الصدق على ما بينا.
وإن كان الذي أخبره بأحد الأمرين عبد ثقة، والذي أخبره بالأمر الآخر ثقة؛ عمل بأكثر رأيه؛ لأن الخبرين استويا، فلابد من التحري لإمكان العمل، فإن أخبره بأحد الأمرين مملوكان ثقتان، وبأمر أخر حران ثقتان أخذ بقول الحرين؛ لأن الخبرين استويا في دليل الصدق، فلابد من الترجيح لإمكان العمل، وطريقه إما التحري أو حرية المخبرين، فحرية المخبرين صالحة للترجيح، والترجيح بها أولى؛ لأن خبر الحرين حجة في الأحكام، وخبر المملوكين ليس بحجة في حق الأحكام، والترجيح بما هو حجة في حق الأحكام ترجيح بما هو دليل، والترجيح بالتحري ترجيح بمجرد الظن، ولا شك أن الترجيح بما هو دليل أولى من الترجيح بمجرد الظن.
وهذا بخلاف ما إذا كان من أحد الجانبين حران، ومن الجانب الآخر ثلاثة أعبد، فإنه يؤخذ بقول العبيد، والفرق وهو الأصل في جنس هذه المسائل: أن الترجيح أولاً