للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوم، وقال: من شاء أخذ منه شيئاً، أو قال: من أخذ منه شيئاً فهو له، فكل (من أخذ) منه شيئاً يصير ملكاً له، ولا يكون لغيره أن يأخذ ذلك منه؛ لأن هذا بمنزلة الهبة منه.

بيانه: أن قول صاحب السكر والدراهم: من أخذ منه شيئاً فهو له؛ تمليك للسكر، والدراهم من الآخر بغير مال، وهو تفسير الهبة، والأخذ من الآخذ قبول لتلك الهبة، فقد جرى بين صاحب الدراهم والسكر وبين الآخذ عقد الهبة، وقد اتصل بها القبض فيصير المقبوض ملكاً للقابض، فهو معنى قولنا: إن هذا بمنزلة الهبة.

فإن قيل: هذا التصرف إن كان تمليكاً من الآخذ إلا أنه كما يحتمل الهبة منه؛ يحتمل الإقراض منه، وجعله إقراضاً أولى؛ لأنه أقل، فيكون متيقناً هذا كما قلنا فيمن دفع إلى رجل ألف درهم، وقال: خذ هذه الدراهم فاعمل بها على أن يكون الربح كله لك، كان ذلك إقراضاً ولم يكن هبة؛ لأنه احتمل كلا الأمرين والقرض أقلها، وكذلك إذا دفع الرجل إلى رجل كر حنطة، وقال: ازرعه في أرضي على أن يكون الخارج كله (٩١ب٢) لك؛ كان معيراً للأرض منه، ومقرضاً الكر منه، وإن لم يجعل هبة منه وطريقه ما قلنا، وجواب هذا هكذا في كل موضع لم يترجح احتمال كونه هبة على احتمال كونه قرضاً كما في تلك المسألتين، وههنا احتمال كونه هبة ترجح بحكم العرف، فإن المتعارف والمعتاد فيما بين الناس أنهم يريدون في مثل هذا الهبة دون القرض؛ الدليل عليه أنه كما جرى التعارف بهذا فيما يصح فيه الإقراض، وهو ما كان من ذوات الأمثال؛ جرى فيما لا يصح فيه الإقراض، وهو ما ليس من ذوات الأمثال، فإن التاجر إذا أثقل عليه أمتعته في المفازة وعجز عن حمله يطرحها، ويقول: من أخذ شيئاً فهو له، وههنا لا يمكن حمله على القرض؛ لأن إقراض المتاع لا يصح، فعلمنا أن المتعارف من مثل هذا التصرف الهبة دون القرض، والدليل عليه أن الناس تعارفوا نثر السكر والدراهم في العرس والوليمة، وأحد لم يقل بأن المأخوذ يكون قرضاً على الآخذ؛ مع أنه يصلح للقرض، فعلمنا أن المتعارف في هذا الباب الهبة دون القرض.

فإن قيل: كيف يمكن أن يجعل هذا هبة، وإن الموهوب له وقت الهبة مجهول، وجهالة الموهوب له وقت الهبة تمنع جواز الهبة؛ ألا ترى أنه لو قال: وهبت هذا العين لواحد من عرض الناس كانت الهبة فاسدة، وفسادها بجهالة الموهوب له، وكذلك الموهوب مجهول، وجهالة الموهوب تمنع جواز الهبة.

والجواب أن الموهوب له والموهوب وإن كانا مجهولين وقت الهبة، إلا أن هذه الجهالة تزول عند القبض، وما يمنع جواز الهبة إذا زال وقت القبض يحكم بجواز الهبة، ويجعل كأنه لم يوجد وقت الهبة؛ ألا ترى أن من وهب من رجل مشاعاً يحتمل القسمة، وقسمه وسلم تجوز الهبة، ويجعل كأن الهبة من الابتداء وردت على المقسوم، وهذا لما عرف أن تمام الهبة بالقبض، فتكون العبرة لحالة القبض، ووقت القبض الهبة معلومة، والموهوب له معلوم، فيجوز كما لو وهبه منه عند الأخذ، وكذلك الموهوب إذا كان غائباً عن مجلس الهبة، وإن الواهب (أمر) الموهوب له بقبضها فقبض جازت الهبة لما ذكرنا أن

<<  <  ج: ص:  >  >>