الفسخ لا يصح إلا بعد البيع فكان مناقضاً في الدعوى.
والمناقضة في الدعوى تمنع صحة الدعوى فكان يجب أن لا تقبل بينة البائع على الفسخ بعدما جحد البيع إلا أن الجواب عنه في وجهين:
الأول: المناقضة إنما تتحقق بين الدعوى إذا لم يمكن التوفيق بينهما، وههنا التوفيق ممكن بين الكلامين بأن يقول البائع: لم أبع شيئاً لنفسي، وإنما باع وكيلي، ثم فسخت البيع بعد ذلك نفي، وإذا أمكن التوفيق بين الكلامين من هذا الوجه يوفق ويحمل عليه حملاً لأمره على الصلاح، وإذا حمل عليه يجعل كالمنصوص عليه فكأن البائع قال: لم أبع بنفسي وإنما باع وكيلي، ثم استحقت العقد معك وأقام على ذلك بينة، ولو كان كذلك تقبل بينة البائع على الفسخ فكذلك هذا.
ونظير هذا ما قالوا فيمن ادعى على آخر ديناً فقال المدعي قبله لم يكن لك علي دين فأقام المدعي بينة على الدين، ثم ادعى قبله الإيفاء أو الإبراء وأقام على ذلك بينة قبلت بينته؛ لأن التوفيق بين الكلامين ممكن بأن يحمل قوله: لم يكن لك دين حين أنكرت؛ لأني قضيت ذلك أو أبرأتني، فكذلك هذا التوفيق بين الدعوتين ممكن فتوفيق القاضي أنهما حملاً لأمر البائع على الصلاح، فإن الظاهر من حال العاقل أن لا يناقض في كلامه، ومحمد رحمه الله لم يذكر توفيق المدعي والمسألة مجهولة على أنه وفق إلا أنه يذكر في بعضها توفيق المدعي ولا يذكر في البعض.
والثاني: وهو أن قوله فسخت البيع؛ لأن جحود البيع فسخ، ألا ترى أنهما لو تبايعا، ثم تجاحدا لفسخ البيع بينهما كما لو تقايلا فيكون جحود أحدهما دعوى الفسخ؟ فكأن البائع ادعى الفسخ أول مرة وأنكر المشتري، ثم أقام البائع البينة على الفسخ، ولو كان كذلك تقبل منه بينة البائع على الفسخ فكذلك هذا.
نوع منه
قال محمد رحمه الله: في «الزيادات» : رجل باع عبد رجل من رجل، ثم اختلف البائع والمشتري فقال البائع: أمرني صاحب العبد بالبيع وقال المشتري: لا بل (لم) يأمرك به، ادعى المشتري عدم الأمر وادعى البائع الأمر فالقول قول من يدعي الأمر؛ لأن دخولهما في هذا العقد وهما عاقلان اعتراف بينهما لصحته ونفاذه، والنفاذ في ملك الغير لا يكون إلا بالأمر فمن يدعي عدم الأمر يدعيه بعد الإقرار بالأمر فيكون مناقضاً، فإن أقام المدعي لعدم الأمر بينة، صاحب العبد لم يأمره بالبيع لم تقبل بينته؛ لأن هذه البينة قامت على النفي؛ ولأن البينة إنما تسمع إذا ترك ثبت على دعوى صحيحة والدعوى ههنا لم تصح لمكان التناقض.
وكذلك لو أقام بينة على إقرار صاحبه إن صاحب العبد لم يأمره بالبيع لا تقبل بينته؛ لأن الدعوى لم تصح على عدم أمره، وكذلك لو لم يكن له بينة، فإن أراد أن يحلف صاحبه على ما ادعى من عدم الأمر لا يلتفت إلي ذلك؛ لأن الدعوى لم تصح والاستحلاف يترتب على دعوى صحيحة.