العقد كان باقياً على الصحة إلى وقت الرد حكماً بسبب قيام المعقود عليه وكون المقبوض، وإذا كان العقد قائماً إلى وقت الرد كان مجلس الرد مجلس العقد من حيث الحكم، فصح القبض الثاني باعتبار الحكم، وباعتبار الحقيقة لا يصح القبض الثاني؛ لأنه لم يوجد في مجلس العقد حقيقة، فإن حقيقة العقد توجد بالإيجاب والقبول، فقد دار القبض الثاني بين أن يصح وبين أن لا يصح، والصحة لم تكن ثابتة فلا يثبت بالشك والاحتمال.
وأبو حنيفة رحمه الله هكذا يقول في المردود: إذا كان كثيراً إلا أنه في القليل استحسن وصح القبض الثاني وإن كان القياس يأبى صحته لنوع ضرورة، فإن أموال الناس لا تخلو عن قليل زيف يكون فيها، لو أخذنا بحقيقة القياس في القليل لضاق الأمر على القياس، والقياس يترك بالضرورة والحرج، فرجحنا كون هذا المجلس مجلس العقد حكماً على كونه غير مجلس العقد حقيقة بسبب الحرج والضرورة، هذه الضرورة معدومة في الكثير؛ لأن أموال الناس تخلو عن كثير الزيوف، فكانت العبرة فيه للقياس أن يبطل السلم بقدر المردود كما قاله زفر رحمه الله، وبخلاف الستوقة والمستحقة؛ لأن أموال الناس تخلو عن المغصوب والنحاس والرصاص قليلاً كان أو كثيراً.
وأبو يوسف ومحمد قالا: بأن القبض الثاني صح من وجه ولم يصح من وجه كما قاله زفر رحمه الله فيعتبره صحيحاً احتيالاً لجواز العقد، فإنه يحتال لجواز العقد ما أمكن، فرجحنا كون هذا المجلس مجلس العقد حكماً على كونه غير مجلس العقد حقيقة احتيالاً منا لجواز العقد كما رجح أبو حنيفة رحمه الله كون هذا المجلس مجلس العقد على كونه غير مجلس العقد حقيقة إذا كان المردود قليلاً ولهذا سمياه استحساناً.
وهذا بخلاف ما لو وجد ستوقة أو مستحقة ولم يخبر المستحق؛ لأن هناك ظهر أن العقد كان باطلاً كما تفرقا عن المجلس؛ لأنه لم يوجد قبض رأس المال، فأما هنا فبقي العقد صحيحاً بعد الافتراق لوجود قبض رأس المال، وإنما يبطل القبض بالرد، فيكون العقد باقياً إلى مجلس الرد، فيكون مجلس الرد مجلس العقد حكماً، فيعتبر بما لو كان مجلس العقد حقيقة إذا تفرقا بعد قبض رأس المال جاز كذا هنا.
ثم اتفقت الروايات الظاهرة المشهورة عن أبي حنيفة أن ما زاد على النصف كان كثيراً، وإن كان المردود أقل من النصف كان قليلاً، وهذا لأن الكثرة والقلة بين شيئين من حيث الحقيقة إنما تعرف بالمقابلة لا بالتسمية؛ لأن مامن قليل إلا يوجد ماهو أقل منه، فمتى كان المردود أكثر من النصف كان المردود كثيراً، وإذا كان المردود أقل من النصف كان قليلاً باعتبار المقابلة؛ لأن ما يقابله من غير المردود أقل فكان المردود كثيراً، وإذا كان المردود أقل من النصف كان قليلاً؛ لأن ما يقابله من غير المردود أكثر، فيكون المردود قليلاً باعتبار المقابلة، وأما النصف ففيه روايتان: في رواية جعله قليلاً، وفي رواية أخرى ما زاد على الثلث كثير، والثلث وما دونه قليل وهذه الرواية موافقة لما ذكرنا (١٢٩أ٣) في الصيد والذبائح أن الظاهر من العضو في الشاة إذا كان أكثر من الثلث فهو كثير، والثلث وما دونه قليل.