وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل البخاري: يفتي بجواز هذه الإجارة. وكذا من بعده من الأئمة ببخارا إلى يومنا هذا.
وكان الزهاد من مشايخنا، كالشيخ الإمام أبي بكر بن حامد، والشيخ الإمام أبي حفص السفكردري وأمثالهما، كانوا لا يفتون بجواز هذه الإجارة وكانوا يقولون فيها شبهة، وليس الأمر كما قالوا.
وبيان الشبهة: أن هذا عقد واحد؛ لأنه حصل بإيجاب واحد، فإذا شرط الخيار ثلاثة أيام في آخر كل ستة أشهر، وفي آخر كل سنة نزيد مدة الخيار على ثلاثة أيام، واشتراط الخيار في عقد واحد زيادة على (٥٧أ٤) ثلاثة أيام يوجب فساد العقد على قول أبي حنيفة، وعلى قول أبي يوسف يجيء شبهة أخرى.
وبيان ذلك: أنهما إذا عقدا عقد الإجارة في غرة الشهر، أو في وسط الشهر. وشرط الخيار في آخر كل سنة، فإن تلك السنة كلها تصير أيام خيار عنده، وكذلك السنة الثانية والثالثة إلى آخر المدة، فلا يفيد العقد فائدة.
وقاسوا هذه المسألة على مسألة أخرى على مذهب أبي يوسف.
وصورتها: رجل اشترى من آخر عبداً أو ثوباً على رأس شهر على أنه بالخيار فيه آخر يوم من هذا الشهر، إن ذلك الشهر خيار كله، والمعنى المجوز دفع حاجة الناس بأموال الغير؛ لأن الإنسان لا يعرض غيره شيئاً كبيراً من ماله من غير أن يطمع فيه وصول نفع مالي إلا نادراً، وبذلك النادر لا تقوم الحوائج، فكان في تجويز هذه الإجارة تعديل النظر من الجانبين.
ثم اختلف المشايخ الذين قالوا بجواز هذه الإجارة: أنهما يعتبر عقداً واحداً، أو عقوداً مختلفة. بعضهم قالوا: يعتبر عقوداً مختلفة حتى يزيد مدة الخيار ثلاثة أيام في عقد واحد فيفسد به العقد عند أبي حنيفة. وبعضهم قالوا: يعتبر عقداً واحداً؛ لأنا لو اعتبرناها عقوداً فما سوى العقد الأول يكون مضافاً، وفي الإجارة المضافة لا تملك الأجرة بالتعجيل، ولا باشتراط التعجيل. والغرض من هذه الإجارة تلك الأجرة، ويبتني على هذا الاختلاف إجارة دار اليتيم إجارة طويلة، واستئجار الدار لليتيم إجارة طويلة.
ووجه البناء: أن هذا العقد لاشك أنه لا يجوز في المدة التي يصيبها قليل الأجرة في الإجارة، وكثير الأجرة في الاستئجار، وهل يتعدى الفساد إلى الباقي؟ فمن جعله عقوداً قال: لا يتعدى، ومن جعله عقداً واحداً، قال: يتعدى.
وبعض المحققين من مشايخنا قالوا: يتعدى الفساد إلى الكل، اعتبرناها عقداً واحداً أو عقوداً إن اعتبرناها عقداً واحداً، فظاهر، وإن اعتبرناها عقوداً متفرقة فكذلك؛ لأنها إنما تعتبر عقوداً متفرقة باعتبار استثناء بعض هذه الأيام. أما من حيث اللفظ، ومقصود المتعاقدين فهما عقد واحد، أما من حيث اللفظ فلأن الآجر يقول: أجرتك هذه الدار بكذا هذه المدة بهذه الشرائط، والمستأجر يقول: قبلت، استأجرت. وأما من حيث مقصود المتعاقدين، فلأن مقصود المتعاقدين مباشرة عقد واحد، واستثناء بعض هذه المدّة