هذه الدار، فهذا لا يكون حكماً، وهكذا كان يفتي الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، وكان يقول: إذا ظهرت عدالة الشهود في دعوى عين، وطلب المدعي الحكم من القاضي، فقال القاضي للمدعى عليه: أين محدود ودباين مدعى ده، فهذا لا يكون حكماً، وينبغي أن يقول: حكم كردم مرأين محدود مرأين مدعى راوا.
والصحيح أن قوله: حكمت وقضيت ليس بشرط، وأن قوله ثبت عندي يكفي، وكذلك إذا قال: ظهر عندي، أو قال: صح عندي، أو قال: علمت، فهذا كله حكم.
وإذا قال القاضي بعدما قضى في حادثة: رجعت عن قضائي، أو قال: بدا لي غير ذلك، أو قال: وقفت على تلبيس من الشهود، وأراد أن يبطل حكمه لا يعتبر هذا الكلام منه، والقضاء ماض على حاله، إذا كان بعد دعوى صحيحة، وشهادة مستقيمة، وعدالة الشهود ظاهرة.
في «فتاوى النسفي» رحمه الله: ادعى حرية نفسه، وقضى القاضي بها ببينة أقامها العبد، ثم قال العبد: كذبت أنا عبد، هل يبطل القضاء بالحرية؟ فلا رواية لهذه المسألة في شيء من الكتب، قالوا: وينبغي أن لا يبطل القضاء.
وهذا بخلاف ما لو ادعى رجل على رجل مالاً، وقضى القاضي بالمال للمدعي ببينة، ثم قال المدعي: كنت كاذباً فيما ادعيت، حيث يبطل القضاء.
والفرق: أن في الحرية حق الله تعالى والعبد لا يقدر على إبطال حق الله تعالى، ولا كذلك المال، لأن المال من العبد، والعبد يقدر على إبطال حقه، وإذا قال المدعي بعد القضاء: المقضي به ليس بملكي لا يملك القضاء بخلاف ما إذا قال: لم يكن بملكي، وهذا لأن قوله: ليس ملكي يتناول الحال، وليس من ضرورة نفي الملك للحال إنتفاؤه من الأصل، بخلاف قوله: لم يكن ملكي.
المقضي له إذا قال: ما قضي به فهو حرام لي، وأمر إنساناً أن يشتري ذلك له من المقضي عليه، فهذا يبطل الحكم؛ لأن الأمر بالشراء دليل على أن لا حق له في المشترى والإنسان لا يشتري ملك نفسه ولا يأمر غيره بذلك.
تكذيب المشهود له الشهود وتفسيقه إياهم قبل القضاء يمنع القضاء، وتكذيبه وتفسيقه إياهم بعد القضاء يبطل القضاء على ما عليه «إشارات الأصل» في «الجامع» ، وكان. (٧٠ب٤) القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: لا يبطل القضاء وعلل فقال: لأن الفاسق ربما يكون صادقاً، ولهذا يصلح شاهداً عندنا، فعلى اعتبار أنه كان صادقاً لا يجوز إبطال القضاء، وعلى اعتبار أنه كان كاذباً يجوز إبطال القضاء، ولا يجوز إبطال القضاء بالشك كما لا يجوز القضاء بالشك، فظن بعض مشايخنا أن ما قاله القاضي الإمام مخالف «لإشارات الجامع» وليس كذلك؛ لأن المراد مما ذكر في «الجامع» تفسيق ينشأ عن تكذيب المشهود له، وإنه يوجب بطلان القضاء كما يمنع جواز القضاء، والمراد مما قاله القاضي الإمام بفسق التفسيق بأن قال: هم زناة، هم شاربوا خمر، لا بفسق ينشأ عن التكذيب، ونفس التفسيق يمنع القضاء.