إقراره بتقديم إقراره على النفي، والتقديم والتأخير شائع في الكلام، فقدمنا إقراره تصحيحاً، ولكن يجب أن يكون قوله: ولكنها لفلان موصولاً بالنفي؛ لأنه إنما يقدم الإقرار ويؤخره تصحيحاً إذا كان الكلام بعضه موصولاً بالبعض.
قالوا: ما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» أن المقر له إذا قال: وهبها لي بعد القضاء، وقبضتها منه فهي لي بالهبة، إنما يصح هذا إذا غابا عن مجلس القضاء حتى أمكن للقاضي تصديق المقر له فيما ادعى من الهبة، فأما إذا قال هذا في مجلس القضاء، فقد علم القاضي كذبه؛ لأنه علم أنه لم يجر بينهما هبة، وما يكون كذباً كان وجوده والعدم بمنزلة، فينبغي أن لا يصح إقرار المقر في هذا الوجه.
قالوا أيضاً: قول محمد في «الكتاب» أن القاضي يقضي بقيمة الدار للمقضي عليه على المقضي له قول محمد، وهو قول أبي يوسف الأول؛ لأن العقار إنما يضمن بالغصب عند محمد وأبي يوسف الأول رحمهما الله.
ومنهم من قال: هذا قول الكل؛ لأن العقار عند أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر يضمن بإتلاف الملك إن كان لا يضمن بالغصب، ألا ترى أنه يضمن بالشهادة بالملك عند الرجوع؟ وإنما يضمن لإتلاف الملك، والمقضي له أتلف الملك على المقضي عليه هاهنا.
ولو قال المقضي له: هذه الدار ليست لي إنما هي لفلان، فهذا وما لو قال: هذه الدار لفلان لا حق لي فيها سواء، حتى لا يبطل قضاء القاضي بالدار للمقضي له، لأن قوله: ليست لي نفي للملك للحال، فيحمل أنه إنما نفاه للحال؛ لأنه ملكه من المقر له بعد القضاء، ويحتمل أنه نفاه للحال؛ لأنه لم يكن له من الأصل، ولا ينقض القضاء بالشك.
وفي «الجامع» أيضاً: رجل في يديه دار جاء رجل وادعى أنها كانت لأبيه، مات وتركها ميراثاً له، وأقام على ذلك بينة، وقضى القاضي له بالدار، ثم جاء رجل آخر وادعى أنها داره اشتراها من أب المقضي له، في حال حياته وصدقه المقضي له بذلك، فإن الدار ترد على المقضي عليه ويبطل القضاء، لأن المقضي له أكذب شهوده على وجه لا يمكن التوفيق؛ لأن وراثه من أبيه داراً باعها الأب في حال حياة لا تصور فيبطل القضاء، وإذا بطل القضاء وجب رد الدار على المقضي عليه، ويقال لمدعي الشراء: أقم البينة على المقضي عليه أنها كانت لأب المقضي له، وأنك اشتريتها منه، فإن أقام البينة على هذا الوجه قضى بالدار له، وما لا فلا، والله أعلم.