وتكلم المشايخ في مقدار المرض الذي لا يعيد به القاضي، قال بعضهم: أن يكون بحال لا يمكنه من الحضور بنفسه والمشي على قدميه، ولو حمل أو ركب على أيدي الناس يزداد مرضه، وقال بعضهم: أن يكون بحال لا يمكنه الحضور بنفسه، وإن كان يمكنه الحضور بالركوب وحمل الناس من غير أن يزداد مرضه، لأن بهذا القدر حل التخلف عن الجماعة، فكذا من الحضور مجلس الحكم، وهذا القول أوضح وأوفق، ثم إذا لم يحضرهما يعني المريض والمخدرة ما يصنع القاضي؟ فالمسألة على وجهين:
إن كان القاضي مأذوناً بالاستخلاف، يبعث خليفته إليهما ليقضي بينهما وبين خصومهما، لأن مجلس الخليفة مجلس القاضي لكون الخليفة قائم بمقام القاضي، وإن لم يكن القاضي مأذوناً بالاستخلاف يبعث القاضي إليه أميناً من أمنائه فقيهاً، ويبعث معه شاهدين عدلين حتى يخبرا القاضي بما يجري، لأنه لا يثبت بقول الأمين ذلك؛ لأنه شهد على فعل نفسه، ولأنه واحد، وإنما يبعث معه شاهدين عدلين ممن يعرفان المرأة وَالمريض، لأن المقصود من بعث الشاهدين أن يخبرا القاضي بما جرى بين المريض والمرأة، والمدعى عليهما، وهذا المقصود إنما يحصل إذا كانا يعرفانهما. وينبغي للقاضي إذا بعث الأمين أن يبين له صورة الاستحلاف وكيفيته، حتى إذا أنكر المدعى عليه حلفه على ما هو رأي القاضي، فالناس يختلفون في كيفية الاستحلاف، فلهذا قال: يبين له ذلك.
ثم إذا ذهبوا إلى المدعى عليه، فالأمين يخبره بما ادعى عليه، فإن أقر بذلك أشهد عليه الشاهدين بما أقر به بحضرة وكيله، فيقضي القاضي بحضرة وكيله، وإن أنكر فالأمين يقول للمدعي: ألك بينة؟ فإن قال: نعم، يأمر المدعى عليه أن يوكل وكيلاً ليحضر مع خصمه في مجلس القضاء، فتقام عليه البينة بحضرة وكيله، وإن قال: ليس لي بينة، فالأمين يحلف المدعى عليه، وإن حلف أخبر الشاهدان القاضي بذلك حتى يمنع المدعي من الدعوى إلى أن يجد بينة، وإن نكل عن اليمين ثلاث مرات أمره الأمين أن يوكل وكيلاً يحضر مع خصمه مجلس الحكم ويشهد عليه الشاهدين بنكوله، ويقضي القاضي عليه بالنكول.
هكذا ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» ، وهذا إشارة إلى أنه لا يشترط للقضاء بالنكول أن يكون على فور النكول، وهو مذهب الخصاف، كما لا يشترط للقضاء بالبينة والإقرار أن يكون على فورهما، ولا يمكن للقاضي أن يقضي بنكول كان عند الأمين، وهذا لأن النكول قد يكون تورعاً عن اليمين الكاذبة، وعلى هذا التقدير القاضي يقضي، وقد يكون ترفعاً عن اليمين الصادقة.
قالوا: وعلى هذا التقدير القاضي لا يقضي وإنما يعين التورع عن اليمين الكاذبة بقضاء القاضي، فيجب أن يكون القضاء على فوره حتى يعين التورع عن اليمين الكاذبة، فعلى قول هذا القائل: الأمين يقضي عليه بنكوله، ثم ينقل الشاهدان قضاء الأمين إلى مجلس القاضي، فيمضي القاضي قضاء الأمين بمحضر من وكيله، وبعض مشايخنا،