قالوا: إذا لم يكن القاضي مأذوناً بالاستخلاف ينبغي أن يقول للمدعي أتريد هذا حكماً يحكم بينكما.
فإن قال: نعم يبعثه إلى المدعى عليه، فإن رضي بحكومته، فحكم بينهما جاز، والتحكيم جائز وحكم الحاكم نافذ، وسيأتي بيانه بعد إن يشاء الله تعالى هذا إذا كان المدعي عليه خارج المصر وهو الوجه الثاني من هذا الفصل.
وإنه على وجهين أيضاً: الأول: أن يكون قريباً من المصر، والجواب فيه كالجواب فيما إذا كان في المصر، فيعديه بمجرد الدعوى استحساناً لما مر، (الثاني) وإن كان بعيداً من المصر لا يعديه بمجرد الدعوى، والفاصلة بين القريب والبعيد إنه إذا كان بحيث لو ابتكر من أهله أمكنه أن يحضر مجلس الحكم، وبحيث يبيت في منزله، فهذا قريب، وإن كان يحتاج إلى أن يبيت في الطريق، فهذا بعيد وإنما لا يعديه إذا كان بعيداً على هذا التفسير، لأن في الإعداء إضراراً به، فإنه يتضرر بالبيتوتة في غير أهله.
ونظير هذا ما قال أصحابنا رحمهم الله: في الفرقة، إذا وقعت الفرقة بين الزوجين وبينهما ولد، فأرادت أن تنقل ولدها إلى قريتها، إن كان بحيث يمكن للزوج أن يزور ولده وينظر في أمره، ويبيت في أهله، فلها أن تنقل وإلا فلا.
وكذلك المضارب ينفق من مال نفسه في المصر لا من مال المضاربة، وإذا سافر ينفق من مال المضاربة، وإن خرج إلى قرية فإن كان بحيث يمكنه أن يعود إلى أهله في يومه ويتعيش عندهم، فإن نفقته لا تكون في مال المضاربة، وهو والمسافر سواء، ولهذا قال أصحابنا رحمهم الله: إنه ينبغي للقاضي أن ينصب قاضياً على مسيرة يومين من المصر، لأنه إذا كان بين المصر والقرية مسيرة يومين يحتاج إلى إحضار الخصم بالدعوى وفيه ضرر؛ لأنه يحتاج إلى أن يبيت في الطريق، وينقطع عن أشغاله.
ثم على قول من أخذ بالقياس في هذه الفصول إذا لم يعده بمجرد الدعوى، إذا كان بعيداً من المصر ماذا يصنع؟ ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أن القاضي يأمر المدعي بإقامة البينة على ما ادعاه، ولا تكون هذه البينة لأجل القضاء، وإنما تكون الأصل الإحضار، وقد يكون البينة لا لأجل القضاء كما في كتاب القاضي، فإن هناك المدعي يقيم البينة ليكتب له، لا ليقضي له، فإذا أقام بينة على ما ادعى أمر بإحضاره، والمستور في هذا يكفي، فإذا حضر أمر المدعي بإعادة البينة ليقضي بها.
وبعض مشايخنا قالوا: القاضي يحلف المدعي على ما أدعى، فإن حلف أحضره، وإن أرسل القاضي إلى المدعى عليه من يحضره، فلم يجده، فقال المدعي للقاضي: إنه توارى عني، وطلب التسمير والختم يعني على باب داره فالقاضي يكلفه إقامة البينة، على أنه في منزله؛ لأن القاضي بالتسمير يجعل الدار سجناً عليه، إن كان هو في الدار، وإن لم يكن في الدار يمنع الدار عنه، وكل ذلك عقوبة فلا بدّ من الجناية، وإنما تتحقق الجناية إذا كان في الدار، وأبى الحضور، فإن جاء شاهدان يشهدان أنه في منزله، فالقاضي يسألهما: من أين علمتما؟ لما ذكرنا أن التسمير عقوبة، والاحتياط في العقوبات