واعلم (٧٦ب٤) بأن قضاء القضاة التي يرفع إلى قاض آخر لا يخلو، إما أن يكون جوراً بخلاف الكتاب والسنة والإجماع، أو يكون في محل الاجتهاد، واجتهد فيه الفقهاء، واختلف فيه العلماء أو يكون بقول مهجور، فإن كان في محل الاجتهاد وحكمه ما ذكرنا، وإن كان جوراً فالقاضي الذي رفع إليه لا ينفذه وينقضه، ولو نفذه كان لقاضي آخر أن يبطله، لأن ما يخالف الكتاب والسنة والإجماع باطل، ولا يجوز تقرير الباطل والضلال، وإن كان بقول مهجور، فالقاضي الذي يرفع إليه ينقضه، ولا ينفذه، ولو نفذه كان لقاض آخر بعد ذلك أن يبطله، وسيأتي بعد هذا بيانه إن شاء الله تعالى.
وبعد هذا يحتاج إلى بيان محل الاجتهاد، قال ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: كل أمر جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله، وجاء عنه غير ذلك الفعل، أو جاء عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء عن ذلك الرجل، أو غيره من الصحابة بخلافه وعمل في الناس بأحد الأمرين دون الآخر، أو عمل بأحد القولين، ولم يعمل بالأخر، ولم يحكم به أحد، فهو متروك منسوخ، فإن حكم به حاكم من أهل زماننا لم يجز، أشار إلى أنه وإن قضى بالنص لكن ثبت بإجماع الأمة انتساخه، حيث لم يعمل به أحد من الأمة، والعمل بالمنسوخ باطل غير جائز.
قال: وإنما يجز من ذلك ما اختلف فيه الناس، وحكم به حاكم من حكام أهل الأمصار، فأخذ بعضهم بقوله، وأخذ بعضهم بقول الآخر، يعني بعض الحكام أشار إلى أن بمجرد خلاف بعض العلماء لا يصير المحل محل الاجتهاد ما لم يعتبر العلماء، وسوغوا له الاجتهاد فيه.
ألا ترى أن عبد الله ابن عباس كان من الفقهاء، ثم لما لم يسوغوا الاجتهاد له في ربا النقد، حتى أنكر عليه أبو سعيد الخدري رضى الله عنه لم يعتبر خلافه على ما بينا قبل هذا، ثم قوله: وإنما يجز من ذلك ما اختلف فيه الناس، يشير إلى أن العبرة بحقيقة الاختلاف في صيرورة المحل مجتهداً فيه، وفي بعض المواضع يشير إلى أن العبرة لإنشاء الدليل، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» في أبواب الأنفال، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ثم إن الخصاف لم يعتبر الخلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله، وإنما اعتبر الخلاف بين المتقدمين، والمراد من المتقدمين الصحابة ومن معهم، ومن بعدهم من السلف.
قال صاحب «الأقضية» : فإذا زنى رجل بأم امرأته، ولم يدخل بها، فجلده القاضي، ورأى أن لا يحرمها عليه فأقرها معه، وقضى بذلك نفذ قضاؤه؛ لأنه قضى في فصل مجتهد فيه، فإن بين الصحابة اختلافاً في هذه الصورة، فعلي وابن مسعود وعمران بن الحصين وأبي بن كعب رضي الله عنهم قالوا بالحرمة، وابن عباس كان لا يقول بالحرمة، وكان يقول: الحرام لا يحرم الحلال، وربما كان برواية مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نفا، وهذا القضاء في حق هذا المقضي عليه متفق عليه، وفي حق