المقضي له إن كان جاهلاً فكذلك، وإن كان عالماً فعلى الخلاف لما مر.
وحكى القدوري في «شرحه» ، فيمن تزوج امرأة زنى بها أبوه أو ابنه، وقضى القاضي بنفاذ هذا النكاح، وفي نفاذ هذا خلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، فعلى قول أبي يوسف لا ينفذ قضاؤه، لأن الحادثة منصوص عليها في «الكتاب» ، فإن النكاح في اللغة الوطء، ولا ينفذ حكم الحاكم على خلاف النص، وعلى قول محمد رحمه الله ينفذ؛ لأن هذا النص ظاهر وللتأويل فيه مشاع، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما على ما روينا يؤيده فكان محل الاجتهاد، فينفذ قضاؤه فيه.
وإذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها، أو اختارت نفسها فهذه المسألة مختلفة في الصدر الأول، فعلى قول عمر وابن مسعود رضى الله عنهما إن اختارت زوجها فهي امرأته، وإن اختارت نفسها فهي تطليقة بائنة، وعلى قول أهل المدينة إن اختارت زوجها فقد بانت منه، وإذا كانت المسألة مختلفة في الصدر الأول من هذا الوجه، فبأي قول من هذه الأقوال قضى كان قضاؤه في فصل مجتهد فيه فينفذ، وإذا قضى القاضي بجواز بيع أمهات الأولاد لا ينفذ قضاؤه.
واعلم بأن جواز بيع أمهات الأولاد مختلف في الصدر الأول، فعمر وعلي رضى الله عنهما أولاً كانا لا يجوزان بيعها، وهكذا روي عن عائشة رضى الله عنها، وقال علي رضى الله عنه آخراً: يجوز بيعها. ثم أجمع المتأخرون على أنه لا يجوز بيعها، وتركوا قول علي آخراً بعد هذا.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ما ذكر في «الكتاب» أنه لا ينفذ قضاؤه قول محمد رحمه الله، أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف ينبغي أن ينفذ، فكأنه مال إلى قول من قال: إن المتقدمين إذا اختلفوا في شيء على قولين، ثم أجمع من بعدهم على أحد القولين، فهذا الإجماع رفع الخلاف المتقدم عند محمد رحمه الله خلافاً لأبي حنيفة وأبي يوسف، وإذا ارتفع الخلاف المتقدم على قول محمد لم يكن قضاء هذا القاضي في فصل مجتهد فيه، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا لم يرتفع الخلاف المتقدم كان هذا قضاء في فصل مجتهد فيه فنفذ.
هما يقولان: لو ثبت الإجماع باتفاق من بعدهم لا بد من تعليل؛ لأن مخالفة الإجماع ضلال، وتضليل بعض الصحابة أو بعض السلف محال، يوضحه أن المخالف لو كان حياً لا ينعقد الإجماع مع مخالفته، فكذا إذا مات؛ لأن بالموت فات المستدل لا الدليل، والمانع الدليل دون المستدل والدليل قائم، فيمنع انعقاد الإجماع حجة لا يوجب الفصل بينما إذا سبقه مخالف، وبين ما إذا لم يسبقه مخالف، ألا ترى أنه لو اجتمع علماء عصر على حكم واحد، وانعقد إجماعهم على ذلك، ثم اجتمع أهل عصر بعدهم على خلاف ذلك يصح؟ وانتسخ الأول بالثاني كأنه ورد آية مضادة لحكم آية قبلها.
ثم قول الكل لم يصلح مانعاً انعقاد الإجماع والإجماع، فقول الواحد أولى وقولهما: بأنه يودي إلى تضليل بعض السلف، فليس كذلك؛ لأن الإجماع إنما انعقد