في المسجد الجامع عند المنبر، وإن كان في موضع ليس فيه مسجد جامع يحلف في مسجد من المساجد، وهو قول أهل المدينة وأهل مكة، وهكذا روي عن أبي يوسف إلا أنه زاد فقال: يوضع المصحف في حجره ويقرأ عليه {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً}(آل عمران: ٧٧) الآية، حجتهم في ذلك أن التغليظ بذكر صفات الله تعالى، إنما يشرع للمبالغة في الزجر عن اليمين الكاذبة، وهذا المعنى يقتضي شرع التغليظ بالتحليف في أشرف الأماكن من غير نكير منكر؛ ولأن النصوص المقتضية للاستحلاف مطلقة عن المكان، فالتقييد بالمكان يكون زيادة على النص والزيادة بمعنى الفسخ.
وإن أراد التغليظ على اليهود يحلفه بالله الذي أنزل التوراة على موسى؛ لأنه يعتقد حرمة التوراة ونبوة موسى عليه السلام.
وإن أراد التغليظ على النصراني يحلفه بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى؛ لأنه يعتقد حرمة الإنجيل ونبوة عيسى عليه السلام.
وإن أراد أن يغلظ على المجوسي يحلفه بالله الذي خلق النار؛ لأنهم يعظمون النار، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ، ولم ينقل عن أبي حنيفة رحمه الله فيه شيء في ظاهر الرواية. وروي في «النوادر» عنه أنه لا ينبغي أن يستحلف أحداً إلا بالله.
وذكر الخصاف أن غير اليهودي والنصراني يستحلف بالله، فهذا إشارة إلى أنه لا يذكر النار في استحلاف المجوسي، وعليه بعض المتأخرين من مشايخنا؛ لأن ذكره يشير إلى تعظيمه، وإنه لا يجوز. ألا ترى أن المسلم لا يستحلف بالله الذي خلق الشمس بخلاف اليهودي والنصراني حيث يذكر في استحلافهم التوراة والإنجيل؛ لأن التوراة والإنجيل كلام الله تعالى فلا يكون فيه تعظيم غير الله تعالى بخلاف النار، أما سائر المشركين يستحلفون بالله لأنهم يقرون بالله تعالى، قال الله تعالى:{ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله}(الزخرف:٨٧) .
وأما بيان كيفيته فنقول: إن وقع الدعوى على فعل المدعى عليه من كل وجه بأن ادعى عليه أنك سرقت هذا العين مني، غصبت هذا العين مني يستحلف على الثبات، وإن وقع الدعوى على فعل الغير من كل وجه حلف على العلم، حتى لو ادعى المدعي ديناً على ميت بحضرة وارثه بسبب الاستهلاك، أو ادعى أن أباك سرق هذا العين مني غصبه مني، حلف على العلم، وهذا مذهبنا والأصل فيه: حديث القسامة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف اليهود على فعل أنفسهم على الثبات وعلى فعل غيرهم على العلم (٩٣ب٤) .
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: هذا الأصل مستقيم في المسائل كلها أن التحليف على فعل الغير يكون على العلم إلا في الرد بالعيب، يريد به: أن المشتري إذا ادعى أن العبد سارق أو آبق وأثبت إباقه أو سرقته في يد نفسه وادعى أنه أبق