وإن قاء دماً إن نزل من الرأس وهو سائل انتقض وضوءه، وإن كان علقاً لا ينتقض وضوءه، وإن صعد من الجوف إن كان علقاً لا ينتقض وضوءه إلا أن يملأ الفم؛ لأنه يحتمل أنه صفراء تجمد أو سوداء انعقد أو بلغم احترق، فيشترط فيه ملء الفم، وإن كان سائلاً وقد صعد من الجوف على قول أبي حنيفة رحمه الله ينتقض وضوءه، وإن لم يكن ملأ الفم، وقول أبي يوسف مضطرب، وإنما يعرف بسيلانه، وعلى قول محمد رحمه الله: لا ينتقض وضوءه إلا إذا كان ملأ الفم إذا خرج بقوة نفسه لا بقوة البزاق.p
وجه قول محمد رحمه الله أنه صاعد من الجوف، والفم أعطي له حكم الباطن فيما بينه وبين الجوف إلا أن يخرج منه دماً دون ملء الفم ليس له حكم الخارج على ما مر، ولأبي حنيفة رحمه الله أن الفم في حق الدم ظاهر من كل وجه؛ لأن الفم إنما أعطي له حكم الباطن، فيما يخرج من المعدة، لأن الفم متصل بالمعدة بمنفذ أصلي، والمعدة ليست بمحل للدم، إنما محل الدم العروق، والفم لا يتصل بالعروق بمنفذ أصلي، وله اتصال بالوجه، فيكون الفم ظاهراً في حق الدم من كل وجه، فكان كالخارج من الأسنان، فيشترط فيه السيلان لا غير، بخلاف ما يخرج من المعدة؛ لأن الفم أعطي له حكم الباطن فيما يخرج من المعدة؛ لأن للفم اتصالاً بالمعدة بمنفذ أصلي، فيشترط فيه ملء الفم على ما مر، أما ههنا بخلافه، فمن مشايخنا من قال: لا خلاف في المسألة على الحقيقة؛ لأن ما قاله أبو حنيفة رحمه الله محمول على ما إذا خرج الدم من منابت الأسنان، من اللهوات وكان أقل من ملء الفم.
وعند محمد رحمه الله في هذه الصورة الجواب كما قال أبو حنيفة، وما قاله محمد محمول على ما إذا خرج من المعدة، وعند أبي حنيفة الجواب في هذه الصورة كما قاله محمد، ومنهم من حقق الخلاف فيما إذا خرج من المعدة على نحو ما بينا والله تعالى أعلم.
ومما يتصل بهذا النوع من المسائل: روى ابن رستم في «نوادره» عن محمد رحمه الله: إذا دخل العلق حلق إنسان ثم خرج من حلقه دم رقيق سائل لا ينتقض وضوءه ما لم يملأ الفم، وإذا بزق وخرج في بزاقه دم، إن كان الدم هو الغالب ينتقض وضوءه وإن كان أقل من ملء الفم، وهذا لأن الحدث هو الخارج النجس، وقد تحقق الخروج إذا كانت الغلبة للدم لأنه إذا كانت الغلبة للدم على أنه خرج بقوة نفسه، وما أخرجه البزاق وإن كانت الغلبة للبزاق لا ينتقض وضوءه؛ لأنه إذا كانت الغلبة للبزاق علم أن البزاق أخرجه، وما خرج بقوة نفسه، وإن كانا سواء، فالقياس أن لا تنتقض طهارته؛ لأنه يحتمل أنه خرج بقوة نفسه، ويحتمل أن البزاق أخرجه فوقع الشك في انتقاض الطهارة.
وفي الاستحسان: ينتقض وضوءه؛ لأنه لما احتمل الخروج بقوة نفسه، رجحنا جانب الخروج احتياطاً لأمر العبادة؛ بخلاف ما إذا شك في الحدث؛ لأن الموجود هناك مجرد الشك ولا عبرة لمجرد الشك مع اليقين بخلافه، وههنا الحدث وجد من وجه دون وجه، فرجحنا جانب الوجود احتياطاً.