وكان الفقيه أبو جعفر البلخي رحمه الله: يفرق بين الموت والنسب من حيث أن الموت مما يعاين، فقد أخبر عن عيان، فكان فيه زيادة قوة، فلا يشترط العدد، فأما النسب فلا يتصور فيه المعاينة، فيمكن في خبره نوع شبهة، فلا يكتفي فيه بقول الواحد ومن المشايخ من قال: لا فرق بين الموت والنسب والقضاء والنكاح، وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع.
موضوع مسألة الموت أنه أخبره واحد عدل موثوق به، ولم يذكر العدل والموثوق به في الأشياء الثلاثة، ولو كان الواحد المخبر في الأشياء الثلاثة عدلاً موثوقاً به حل له أن يشهد، ومنهم من قال بالفرق والفرق ما ذكرنا.
ثم عند أبي يوسف ومحمد يجوز الشهادة بخبر المثنى في النسب والقضاء والنكاح، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا تجوز الشهادة ما لم يسمع ذلك من العامة بحيث يقع في قلبه صدق الخبر.
وجه قولهما: أن خبر الاثنين للعدل حجة مطلقة لو شهدا به عند القاضي قضى بشهادتهما، فإذا شهدا عنده حل له أداء الشهادة أيضاً؛ لأن جواز الشهادة يبنى على العلم، كما أن جواز القضاء يبنى على العلم، فإذا جاز القضاء بهذا العلم لأن تجوز الشهادة به والقضاء أقوى؛ لأن فيه إلزاماً أول، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: بأن جواز الشهادة يبنى على العلم، وبخبر المثنى لا يحصل العلم لبقاء شبهة الكذب في خبرهما وإن كانا عدلين، وأما بخبر الجماعة التي لا يتصور تواطؤهم على الكذب يحصل العلم، بحيث لا يشك السامع في وجود المخبر به، فإذا أخبره جماعة يحصل له العلم بخبرهم ويقع في قلبه صدقهم، حل له أداء الشهادة وإلا فلا يحل له، ثم في الأشياء الثلاثة إذا ثبت والشهرة والاستفاضة عندهما بخبر عدلين، بشرط أن يكون الإخبار بلفظة الشهادة، كذا ذكره الخصاف وشيخ الإسلام رحمهما الله، وبه أخذ الصدر الشهيد برهان الدين جدي رحمه الله لأنه إخبار بالشهادة يوجب زيادة علم شرعاً لا توجبه لفظة الخبر، ألا ترى أن القاضي لا يقضي ما لم يأت الشاهد بلفظة الشهادة، وفي فصل (١١٨أ٤) .
الموت لما ثبتت الشهرة بخبر الواحد بالإجماع لا يشترط فيه لفظية الشهادة، بل يكتفى فيه بمجرد الإخبار، إما لأن لفظ الشهادة من الواحد لا توجب زيادة العلم حتى لا يقضي القاضي بها، أو لأنه لما سقط اعتبار العدد وتأثير العدد في إفادة زيادة العلم أكثر من تأثير لفظة الشهادة، لأن يسقط اعتبار لفظة الشهادة أولى.
وأما الشهادة على الدخول بالشهرة والتسامع ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أنه يجوز؛ لأن هذا أمر يشتهر، ويتعلق به أحكام مشهورة من النسب والمهر والعدة وثبوت الإحصان، بخلاف الزنا، حيث لا تجوز الشهادة فيها بالتسامع، لأن الزنا فاحشة، والشهادة بالتسامع إنما جازت احتيالاً لإحياء حقوق الناس؛ لأن الذين عاينوا لو ماتوا ومضى عليه قرن بعد قرن لو لم تجز الشهادة بالتسامع أدى إلى إبطال حقوق الناس، والفاحشة لا يحتال لإثباتها.