وبيان ذلك من وجهين، أحدهما: أن هذا الإقرار في معنى الشهادة فإنه إقرار على الغير وهو الميت فكما أن الشهادة التي فيها تنفيذ القول على الغير لا تصير موجبة إلا بقضاء القاضي، فكذا الإقرار الذي هو في معنى الشهادة.
والثاني: أنه يحتمل أن رب الدين يجد بينة على ذلك، أو يصدقه باقي الورثة، فلو ألزمنا المقر جميع الدين في نصيبه للحال فقد ألزمناه مع الاحتمال، وإنه لا يجوز وإنما ينقطع هذا الاحتمال، ويلزمه كل المال في نصيبه بقضاء القاضي، فإذا شهدا قبل القضاء يحولا إلى غيرهما بعض ما لزمهما فتقبل شهادتهما، وإذا شهدا بعد القضاء فقد حولا إلى غيرهما بعض ما لزمهما فلا تقبل شهادتهما.
فإن قيل: إذا كان لا يلزم المقر كل الدين في نصيبه بمجرد إقراره فبأي طريق يقضي القاضي عليه بكل الدين؟ قلنا: طريقه أن الدين يقضى من أيسر المالين قضاء، ألا ترى أنه إذا كان في التركة دين وعين فالدين يقضى من العين دون الدين؟ وكذا إذا كان بعض التركة حاضراً وبعضها غائباً فالدين يقضى من الحاضر.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا لم يجد رب المال الدين بينة ولم يصدقه باقي الورثة، فقضاء القاضي من نصيب المقر أيسر فقضى عليه، وإن كان الدين متعلقاً بكل التركة، قال في «الكتاب» أيضاً: ألا ترى لو أن رجلا مات، وشهد شاهدان أن الميت أوصى إلى هذا، فقبل أن يقضي القاضي بشهادتهما، شهد الوارثان أنه رجع عنه وأوصى إلى هذا الثاني، قبل القاضي شهادتهما، إذا كان الثاني يدعي ذلك ولو كان القاضي قضى للأول ثم شهد الوارثان بذلك فالقاضي لا يقبل شهادتهما؛ لأنها تضمنت إبطال قضاء القاضي.
أورد هذا الفصل إيضاحاً لما تقدم أيضاً، ثم لم يقل هاهنا: إن شهادة الوارثين تقبل في حق الإيصاء إلى الثاني دون الرجوع عن الإيصاء الأول كما ذكرنا فيما تقدم، قال مشايخنا: وينبغي على قول أبي يوسف: أن تقبل شهادتهما في حق الإيصاء إلى الثاني دون الرجوع عن الأول؛ لأن عنده أحد الوصيين ينفرد بالوصية فلم تكن في قبول شهادتهما في حق الإيصاء إلى الثاني دون الرجوع عن الأول، أما في قبول شهادتهما في حق الرجوع عن الأول نقض القضاء الأول، وأما على قولهما لا تقبل هذه الشهادة أصلاً؛ لأن عندهما أحد الوصيين لا ينفرد بالتصرف إلا في أشياء معهودة استحسنا في ذلك على ما عرف في موضعه فلو قبلت الشهادة في حق الإيصاء إلى الثاني لم يبق الأول منفرداً بالتصرف بعد أن كان منفرداً فكان في قبولها نقض القضاء الأول من حيث إن الأول لا يبقى منفرداً فلا تقبل شهادتهما عندهما أصلاً.
قال: رجل هلك وترك ثلاثة أعبد قيمتهم على السواء لا مال له غيرهم، وترك ابناً لا وارث له غيره، فأقر الابن أن أباه أوصى بهذا العبد لفلان، فسمع القاضي إقراره ولم يقض عليه شيء حتى شهد هو ورجل آخر أن الميت أوصى بهذا العبد الآخر لهذا الرجل الآخر، قبل القاضي هذه الشهادة؛ لأن الوارث أقر على الميت بالوصية بالعبد الأول، وإقراره على الميت لا يلزمه شيء ما لم يتصل به قضاء القاضي على ما مر قبل هذا.