قال ابن سماعة عن محمد رحمه الله: في رجل ادعى عليه عشرة آلاف درهم، فأنكرها فسأل الحاكم المدعي هل قبض من المال شيئاً، فأقر أنه قبض منه عشرة آلاف، فأبرأ الحاكم المدعى عليه من العشرة آلاف، فلما خرجا من عند الحاكم قال المطلوب: لا والله ما قبضتها مني، فجاء الطالب ببينته يشهدون على كلامه هذا، قال محمد رحمه الله: أقبل هذا من الطالب وأقضي بها عليه، وبمثله لو أقام الطالب البينة على المال لا تقبل ذلك منه؛ لأنه إنما لا تقبل البينة على المال للتناقض لمكان إقراره بالقبض، فإذا صدقه في ذلك وأقر أن القبض لم يكن انتفى التناقض، لأن التناقض يرتفع بتصديق الخصم، وبما أقام من البينة ثبت تصديقه فقبلت منه.
واستشهد لهذا الرجل أقر أن لفلان عليه عشرة آلاف درهم، فقال الطالب: ليس لي عليك شيء، فقد برئ المطلوب، لأن الإقرار يبطل بتكذيب المقر له، فإن قال المطلوب بعد ذلك: بلى لك علي عشرة آلاف درهم، فإنه يقضي به للطالب إذا ادعاها؛ لأنه استأنف الإقرار بالمال له، فإن صدقه في هذا الإقرار كان له أن يأخذه، كذلك في المسألة الأولى أثبت بشهادته إقراره مستأنفاً منه لم يتصل به التكذيب، فملك إثباته بالبينة قال محمد رحمه الله: وإن قال المطلوب: إنما قلت: ما قبضتها مني، وأنا أقيم البينة أنك قبضتها من وكيلي، لم تقبل بينته، لأن القبض من وكيله قبض منه أيضاً، فإقراره الأول ينتظمهما جميعاً، فإذا ادعى القبض من وكيله، كان متناقضاً في دعواه، فلم يسمع منه.
قال: ألا ترى أن رجلاً لو قال: والله ما قبض مني فلان من الألف التي له علي قليلاً ولا كثيراً، كان هذا القول على نفسه، وعلى وكيله ورسوله؛ لأن الإنسان يعد قابضاً بيد وكيله عادة وقاضياً على يد نفسه ووكيله، فكذلك ههنا.
قال ابن سماعة: قال محمد رحمه الله: ولو جاء المطلوب ببينة يشهدان أن رجلاً أجنبياً قضى هذا المال تطوعاً بها من ماله بغير أمر المطلوب، ولا وكلائه، فإني أقبل ذلك، وهذا يستقيم أن يقول: ما قبضتها مني، ولكن تطوع بأدائها عني، وهذا لأن فعل كل واحد يقتصر عليه بقضية الأصل، وإنما ينتقل إلى غيره بحكم الأمر، فإذا كان متطوعاً لم يوجد الأمر فبقي فعله مقصوراً عليه فلا يصير قابضاً من المطلوب، فلم تثبت المناقضة فقبلت الشهادة.
ولو قال المطلوب: ما قبضها فلان، كان هذا على قبض نفس المطلوب ووكيله، وعلى كل أحد أجنبي وغيره، ولا أقبل البينة أنه قبضها من رجل أجنبي، لأنه أضاف القبض إلى الألف، وأنه يصير قابضاً لها بقضاء المطلوب، ويتبرع الأجنبي بالقضاء حتى سقط الدين، فانتظر قبضه منه ومن غيره، فإذا ادعى القبض من أجنبي، كان متناقضاً في دعواه فلا تقبل بينته بخلاف الأول، فإن ثمة أضاف قبض الألف إليه بكلمة من، وأنها إنما تستعمل إذا كان القبض بتسليم من فلان ليحصل معنى العرف الذي وضعت كلمة من له، وبالقبض من الأجنبي لا يتحقق هذا المعنى، فلم تدخل تحت صدر الكلام فلم تثبت المناقضة فقبلت الشهادة، أما ههنا فبخلافه على ما ذكرنا.