أما الأول؛ فلان الواهب يدعي حقاً فيما هو كسب المأذون بعقد جرى بين المدعي وبين المأذون فينتصب المأذون خصماً له؛ كما لو ادعى شيئاً في يد المأذون أنه ملكه مطلقاً انتصب خصماً سواء كان على المأذون دين أو لم يكن.
وأما الثاني: فلأن المحجور فيما في يده بمنزلة المودع في جهة المولى، ألا ترى أن من ادعى عيناً في يده أنه اشتراه من المحجور أو ادعى ملكاً مطلقاً، لا ينتصب خصماً له وإن كان من كسب المحجور كان الفقه فيه.
وهو أن للمأذون يداً معتبرة على ما في يده كالمكاتب، ولهذا لو باع المأذون ما في يده يد معتبرة، ولهذا لو باع ما في يده لا يجوز، وإن كان من كسبه، فهذا يبين لك أن يد المأذون يد نفسه، ويد المحجور يد المولى حكماً، ولما كان هكذا كان رجوع الواهب في الوجه الأول إبطال يد العبد، فكان هو الخصم في ذلك، فلا يشترط حضرة المولى، وفي الوجه الثاني رجوع الواهب إبطال يد المولى حكماً، فكان المولى هو الخصم في ذلك فيشترط حضرته.
وإن قال العبد: أنا محجور، وقال الواهب: أنت مأذون، ولي أن أرجع فيها قبل حضور مولاك، فالقول قول الواهب مع يمينه، قالوا: وهذا استحسان.
والقياس: أن يكون القول قول العبد لأنه متمسك بالأصل وهو الحجر، فكان الظاهر شاهداً له، إلا أنا استحسنا. وقلنا: القول قول الواهب مع يمينه؛ لأن الهبة حين وقعت، وقعت موجبة للرجوع، فالعبد بقوله: أنا محجور، يدعي تأخير حق الواهب في الرجوع إلى حضرة المولى، والتأخير نوع إبطال، فيكون القول قول الواهب مع يمينه.
وما يقول بأن الظاهر شاهد للعبد قلنا: نعم، ولكن إنما يجعل القول قول من يشهد له الظاهر؛ إذا كان بالظاهر يدفع شيئاً عن نفسه، وهاهنا هو بهذا الظاهر يبطل حقاً مستحقاً للواهب، وهو حق الرجوع في الهبة فلا يلتفت إليه، ثم إنما حلفنا الواهب على العلم؛ لأن هذا تحليف على فعل الغير وهو حجر المولى، والتحليف على فعل الغير يكون على العلم.
ولو أقام العبد بينة أنه محجور لا تقبل بينته؛ لأن الواهب يدعي حقاً على العبد بعقد جرى بينه وبين العبد، والعبد بهذه البينة يثبت كونه مودعاً من جهة المولى، لما مر أن المحجور فيما في يده بمنزلة المودع من جهة المولى.
قلنا: ومن انتصب خصماً لإنسان بدعوى الفصل عليه إذا أقام بينة على أنه مودع فلان ليدفع الخصومة عن نفسه، لا تقبل بينته ولا تندفع عنه الخصومة، أما إذا أقام البينة على إقرار المدعي أنه مودع فلان فقد أقام البينة على أن المدعي أبرأه عن هذه الخصومة معنىً؛ لأنه يريد إسقاط خصومة المدعي لمعنى وجد من جهة المدعي وهو إقراره، ومن انتصب خصماً بدعوى الفعل عليه لا تقبل بينته على إحالة الخصومة إلى غيره، وتقبل على إبراء المدعي إياه من الخصومة.