للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأحرق بسببه فى الآخرة، والله لو بلغ هذا حيث أشرت لترك كلّ وجه وجعل جميع الوجوه إليك حتى يفرغ منك، ما لهذا ضرورة؛ إنه قد خطر لك أنهم استدرجوك لأن تسير إليهم، وتمكن من نفسك، فقل جميلا وإن كان فعلك ما علمت. فأصغى إليه أبو عزيز، وعلم أنه رجل عاقل ناصح ساع بخير لمرسله وللمسلمين، فقال له: كثّر الله فى المسلمين مثلك، فما الرأى عندك؟ قال: أن ترسل من أولادك من لا تهتم به إن جرى عليه ما تتوقعه - ومعاذ الله أن يجرى إلا ما تحبه - وترسل معه جماعة من ذوى الأسنان والهيئات من الشرفاء، فيدخلون مدينة السلام، وفى أيديهم أكفانهم منشورة، وسيوفهم مسلولة، ويقبّلون العتبة، ويتوسلون برسول الله ، ويصفح أمير المؤمنين؛ وسترى ما يكون من الخير لك وللناس، والله لئن لم تفعل هذا لتركبن الإثم العظيم، ويكون ما لا يخفى عنك. فشكره ووجّه صحبته ولده، وأشياخ الشرفاء، ودخلوا بغداد على تلك الهيئة التى رسم، وهم يضجون ويبكون ويتضرّعون، والناس يبكون لبكائهم، واجتمع الخلق كأنه المحشر، ومالوا إلى باب النوبى من أبواب مدينة الخليفة؛ فقبّلوا هنالك العتب، وبلغ الخبر الناصر؛ فعفا عنهم وعن مرسلهم، وأنزلوا فى الديار الواسعة، وأكرموا الكرامة التى ظهرت واشتهرت، وعادوا إلى أبى عزيز بما أحبّ. وكان بعد ذلك يقول: لعن الله أول رأى عند الغضب، ولا عدمنا عاقلا ناصحا يثنينا عنه. هذا كلام أبى سعيد المغربى (١).


(١) وانظر العقد الثمين ٤٩:٧ - ٥٣، ودرر الفرائد ٢٧٠ - ٢٧٢.