للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

التعديد إنما هو فسخه لَهُمْ، فَمَنْ ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ لَزِمَهُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى عَلَى لُزُومِ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ، وَشَذَّ طَاوُسٌ وَبَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يقع واحدة، ويروى هذا عن محمد ابن إِسْحَاقَ وَالْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ. وَقِيلَ عَنْهُمَا: لَا يلزم منه شي، وَهُوَ قَوْلُ «١» مُقَاتِلٍ. وَيُحْكَى عَنْ دَاوُدَ أَنَّهُ قَالَ لَا يَقَعُ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَازِمٌ وَاقِعٌ ثَلَاثًا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُوقِعَ ثَلَاثًا مُجْتَمِعَةً فِي كَلِمَةٍ أَوْ مُتَفَرِّقَةً فِي كَلِمَاتٍ، فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ منه شي فَاحْتَجَّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ". وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ إِلَّا مَا خُصَّ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ:" الطَّلاقُ مَرَّتانِ" وَالثَّالِثَةُ" فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ". وَمَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ فَلَا يَلْزَمُ، إِذْ هُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ وَاحِدَةً فَاسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثَ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا- حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ طَاوُسٍ وَأَبِي الصَّهْبَاءِ وَعِكْرِمَةَ. وَثَانِيهَا- حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُ بِرَجْعَتِهَا وَاحْتُسِبَتْ لَهُ وَاحِدَةٌ. وَثَالِثُهَا- أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْعَتِهَا، وَالرَّجْعَةُ تَقْتَضِي وُقُوعَ وَاحِدَةٍ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَحَادِيثِ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أن سعيد ابن جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدًا وَعَطَاءً وَعَمْرَو بْنَ دِينَارٍ وَمَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ وَمُحَمَّدَ بْنَ إِيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ وَالنُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ رَوَوْا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَنَّهُ قَدْ عَصَى رَبَّهُ وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَلَا يَنْكِحُهَا إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وَفِيمَا رَوَاهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِمَّا يُوَافِقُ الْجَمَاعَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى وَهْنِ رِوَايَةِ طَاوُسٍ وَغَيْرِهِ، وَمَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِيُخَالِفَ الصَّحَابَةَ إِلَى رَأْيِ نَفْسِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرِوَايَةُ طَاوُسٍ وَهْمٌ وَغَلَطٌ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ لَا يُعْرَفُ فِي مَوَالِي ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ:" وَعِنْدِي أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ بِذَلِكَ صَحِيحَةٌ، فَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْأَئِمَّةُ: مَعْمَرٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمَا، وَابْنُ طَاوُسٍ إِمَامٌ. والحديث الذي يشيرون إليه هو


(١). في ب: مذهب مقاتل.