للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ حُبِّ الْعِجْلِ بِالشُّرْبِ دُونَ الْأَكْلِ لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ يَتَغَلْغَلُ فِي الْأَعْضَاءِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى بَاطِنِهَا، وَالطَّعَامُ مُجَاوِرٌ لَهَا غَيْرُ مُتَغَلْغِلٍ فِيهَا. وَقَدْ زَادَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَحَدُ التَّابِعِينَ فَقَالَ فِي زَوْجَتِهِ عَثْمَةَ، وَكَانَ عَتَبَ عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَمْرِ فَطَلَّقَهَا وَكَانَ مُحِبًّا لَهَا:

تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ فِي فُؤَادِي ... فَبَادِيهِ مَعَ الْخَافِي يَسِيرُ

تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ ... وَلَا حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرُورُ

أَكَادُ إِذَا ذَكَرْتُ الْعَهْدَ مِنْهَا ... أَطِيرُ لَوَ انَّ إِنْسَانًا يَطِيرُ

وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَرَدَ الْعِجْلَ وَذَرَاهُ فِي الْمَاءِ، وَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: اشْرَبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَشَرِبَ جَمِيعُهُمْ، فَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْعِجْلَ خَرَجَتْ بُرَادَةُ الذَّهَبِ عَلَى شَفَتَيْهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ مَا شَرِبَهُ أَحَدٌ إِلَّا جُنَّ، حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ. قُلْتُ: أَمَّا تَذْرِيَتُهُ فِي الْبَحْرِ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً «١» " وَأَمَّا شُرْبُ الْمَاءِ وَظُهُورُ الْبُرَادَةِ عَلَى الشِّفَاهِ فَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ". وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ" أَيْ إِيمَانُكُمُ الَّذِي زَعَمْتُمْ فِي قَوْلِكُمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُمِرَ أَنْ يُوَبِّخَهُمْ، أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: بِئْسَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي فَعَلْتُمْ وَأَمَرَكُمْ بِهَا إِيمَانُكُمْ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي" بِئْسَما" وَالْحَمْدُ «٢» لِلَّهِ وحده.

[سورة البقرة (٢): الآيات ٩٤ الى ٩٥]

قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥)

لَمَّا ادَّعَتِ الْيَهُودُ دَعَاوَى بَاطِلَةً حَكَاهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً"، وَقَوْلُهُ:" وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى "


(١). راجع ج ١١ ص ٢٤٣.
(٢). راجع ص ٢٧ من هذا الجزء.