للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَيْ مَنْ عَمِلَ بِمَا افْتَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ طَلَبًا لِلْآخِرَةِ آتَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ عَمِلَ طَلَبًا لِلدُّنْيَا آتَاهُ بِمَا كُتِبَ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ ثَوَابٍ، لِأَنَّهُ عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ «١»). وَقَالَ تَعَالَى: (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ «٢»). وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْمُنَافِقُونَ وَالْكُفَّارُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِيُوَسِّعَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَيَرْفَعَ عَنْهُمْ مَكْرُوهَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أَيْ يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَهُ ويبصر ما يسرونه.

[[سورة النساء (٤): آية ١٣٥]]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥)

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) فيه عشر مسائل: الاولى- قوله تعالى: (كُونُوا قَوَّامِينَ) (قَوَّامِينَ) بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ، أَيْ لِيَتَكَرَّرْ مِنْكُمُ الْقِيَامُ بِالْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ فِي شَهَادَتِكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ إِقْرَارُهُ بِالْحُقُوقِ عَلَيْهَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْوَالِدَيْنِ لِوُجُوبِ بِرِّهِمَا وَعِظَمِ قَدْرِهِمَا، ثُمَّ ثَنَّى بِالْأَقْرَبِينَ إِذْ هُمْ مَظِنَّةُ الْمَوَدَّةِ وَالتَّعَصُّبِ، فَكَانَ الْأَجْنَبِيُّ مِنَ النَّاسِ أَحْرَى أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ بِالْقِسْطِ وَيُشْهَدَ عَلَيْهِ، فَجَاءَ الْكَلَامُ فِي السُّورَةِ فِي حِفْظِ حُقُوقِ الْخَلْقِ فِي الْأَمْوَالِ. الثَّانِيةُ- لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي صِحَّةِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّ شَهَادَةَ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ [الْأَبِ وَالْأُمِّ «٣»] مَاضِيَةٌ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ بِرِّهِمَا، بَلْ مِنْ بِرِّهِمَا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمَا وَيُخَلِّصَهُمَا مِنَ الْبَاطِلِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا «٤») فَإِنْ شَهِدَ لَهُمَا أَوْ شَهِدَا له وهي:


(١). راجع ج ٦ ص ٢
(٢). راجع ج ٩ ص ١٥.
(٣). من ج وط.
(٤). راجع ج ١٨ ص ١٩٤