للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ" تَرَوْا" بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ. (مُسَخَّراتٍ) مُذَلَّلَاتٍ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقِيلَ:" مُسَخَّراتٍ" مذللات لمنافعكم. (فِي جَوِّ السَّماءِ) الْجَوُّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَأَضَافَ الْجَوَّ إِلَى السَّمَاءِ لِارْتِفَاعِهِ عَنِ الأرض. وَفِي قَوْلِهِ" مُسَخَّراتٍ" دَلِيلٌ عَلَى مُسَخِّرٍ سَخَّرَهَا ومدبر مكنها من التصرف. (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) فِي حَالِ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ وَالِاصْطِفَافِ. بَيَّنَ لَهُمْ كَيْفَ يَعْتَبِرُونَ بِهَا عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أَيْ عَلَامَاتٍ وَعِبَرًا وَدَلَالَاتٍ. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بِاللَّهِ وَبِمَا جاءت به رسلهم «١».

[[سورة النحل (١٦): آية ٨٠]]

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠)

فِيهِ عَشْرُ «٢» مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَعَلَ لَكُمْ) مَعْنَاهُ صَيَّرَ. وَكُلُّ مَا عَلَاكَ فَأَظَلَّكَ فَهُوَ سَقْفٌ وَسَمَاءٌ، وَكُلُّ مَا أَقَلَّكَ فَهُوَ أَرْضٌ، وَكُلُّ مَا سَتَرَكَ مِنْ جِهَاتِكَ الْأَرْبَعِ فَهُوَ جِدَارٌ، فَإِذَا انْتَظَمَتْ وَاتَّصَلَتْ فَهُوَ بَيْتٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا تَعْدِيدُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ فِي الْبُيُوتِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا بُيُوتَ الْمُدُنِ وَهِيَ الَّتِي لِلْإِقَامَةِ الطَّوِيلَةِ. وَقَوْلُهُ: (سَكَناً) أَيْ تَسْكُنُونَ فِيهَا وَتَهْدَأُ جَوَارِحُكُمْ مِنَ الْحَرَكَةِ، وَقَدْ تَتَحَرَّكُ فِيهِ وَتَسْكُنُ فِي غَيْرِهِ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ. وَعَدَّ هَذَا فِي جُمْلَةِ النِّعَمِ فَإِنَّهُ لَوْ شَاءَ خَلَقَ الْعَبْدَ مُضْطَرِبًا أَبَدًا كَالْأَفْلَاكِ لَكَانَ ذَلِكَ كَمَا خَلَقَ وَأَرَادَ، لَوْ خَلَقَهُ سَاكِنًا كَالْأَرْضِ لَكَانَ كَمَا خَلَقَ وَأَرَادَ، وَلَكِنَّهُ أَوْجَدَهُ خَلْقًا يَتَصَرَّفُ لِلْوَجْهَيْنِ، وَيَخْتَلِفُ حَالُهُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ، وَرَدَّدَهُ كَيْفَ وَأَيْنَ. وَالسَّكَنُ مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بيوت القلة والرحلة وهى:


(١). في ج وو: رسلهم.
(٢). اضطربت الأصول في عد هذه المسائل.