للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ أَحْصاهُمْ) أَيْ عَلِمَ عَدَدَهُمْ (وَعَدَّهُمْ عَدًّا) تَأْكِيدٌ أَيْ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ. قُلْتُ: وَوَقَعَ لَنَا فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ الْمُحْصِي أَعْنِي فِي السُّنَّةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَاشْتِقَاقُ هَذَا الْفِعْلِ يدل عليه. وقال الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني: وَمِنْهَا الْمُحْصِي وَيَخْتَصُّ بِأَنَّهُ لَا تَشْغَلُهُ الْكَثْرَةُ عَنِ الْعِلْمِ مِثْلَ ضَوْءِ النُّورِ وَاشْتِدَادِ الرِّيحِ وَتَسَاقُطِ الْأَوْرَاقِ فَيَعْلَمُ عِنْدَ ذَلِكَ أَجْزَاءَ الْحَرَكَاتِ فِي كُلِّ وَرَقَةٍ وَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ وَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ وَقَدْ قَالَ:" أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" «١». وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَى" لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا" يُرِيدُ أَقَرُّوا لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَشَهِدُوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أَيْ وَاحِدًا لَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا مال معه لينفعه «٢» كَمَا قَالَ تَعَالَى:" يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" «٣» فَلَا يَنْفَعُهُ إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عمل وقال:" وَكُلُّهُمْ آتِيهِ" على لفظ وَعَلَى الْمَعْنَى آتُوهُ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّكُمْ لَا تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ بِاسْتِعْبَادِ أَوْلَادِكُمْ والكل عبيده فكيف رضيتم له مالا تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ. وَقَدْ رُدَّ عَلَيْهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا فِي أَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْبَنَاتِ وَيَقُولُونَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَوْلُهُمُ: الْأَصْنَامُ بَنَاتُ اللَّهِ. وَقَالَ:" فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ" «٤».

[[سورة مريم (١٩): آية ٩٦]]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦)

قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا" أَيْ صَدَّقُوا." وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا" أَيْ حُبًّا فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ. كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ- قَالَ- فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ الْمَحَبَّةُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا"


(١). راجع ج ١٨ ص ٢١٣ فما بعد.
(٢). كذا في الأصول إلا ا: ينفعه.
(٣). راجع ج ١٣ ص ١١٣ فما بعد.
(٤). راجع ج ٧ ص ٨٩ فما بعد.