للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَخَصَّ الْأَبْنَاءَ فِي الْمَعْرِفَةِ بِالذِّكْرِ دُونَ الْأَنْفُسِ وَإِنْ كَانَتْ أَلْصَقَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمُرُّ عَلَيْهِ مِنْ زَمَنِهِ بُرْهَةٌ لَا يَعْرِفُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَلَا يَمُرُّ عَلَيْهِ وَقْتٌ لَا يَعْرِفُ فِيهِ ابْنَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: أَتَعْرِفُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَعْرِفُ ابْنَكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَأَكْثَرَ، بَعَثَ اللَّهُ أَمِينَهُ فِي سَمَائِهِ إِلَى أَمِينِهِ فِي أَرْضِهِ بِنَعْتِهِ فَعَرَفْتُهُ، وَابْنِي لَا أَدْرِي مَا كَانَ مِنْ أُمِّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ" يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَخُصَيْفٌ. وَقِيلَ: اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا آنِفًا. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَهُمْ يَعْلَمُونَ" ظَاهِرٌ فِي صِحَّةِ الْكُفْرِ عِنَادًا، وَمِثْلُهُ:" وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ" «١» وَقَوْلُهُ:" فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ".

[[سورة البقرة (٢): آية ١٤٧]]

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)

قَوْلُهُ تَعَالَى:" الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ" يَعْنِي اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ، لَا مَا أَخْبَرَكَ بِهِ الْيَهُودُ مِنْ قِبْلَتِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ" الْحَقَّ" مَنْصُوبًا بِ" يَعْلَمُونَ" أَيْ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ. وَيَصِحُّ نَصْبُهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْزَمِ الْحَقَّ. وَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوْ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَإٍ، وَالتَّقْدِيرُ هُوَ الْحَقُّ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ جَاءَكُ الْحَقُّ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَأَمَّا الَّذِي فِي" الْأَنْبِيَاءِ"" الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ «٢» " فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَهُ إِلَّا مَنْصُوبًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" مُبْتَدَأُ آيَةٍ «٣»، وَالَّذِي فِي الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ كَذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ" أَيْ مِنَ الشَّاكِّينَ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ. يُقَالُ: امْتَرَى فُلَانٌ [فِي] كَذَا إِذَا اعْتَرَضَهُ الْيَقِينُ مَرَّةً وَالشَّكُّ أُخْرَى فَدَافَعَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَمِنْهُ الْمِرَاءُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشُكُّ فِي قَوْلِ صَاحِبِهِ. وَالِامْتِرَاءُ فِي الشَّيْءِ الشَّكُّ فِيهِ، وَكَذَا التَّمَارِي. وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ شَاهِدًا عَلَى أَنَّ الْمُمْتَرِينَ الشَّاكُّونَ قَوْلَ الْأَعْشَى:

تَدِرُّ على أسوق الممترين ... من ركضا إذا ما السراب ارجحن


(١). راجع ج ١٣ ص ١٦٣.
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٨٠.
(٣). في أ:" به". [ ..... ]