للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْوَقْتِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى أَنَّ الْأَوْلَى تَأْخِيرُهَا، وَعُمُومُ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، قَالَهُ إِلْكِيَا «١». وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَوْلَى مِنَ الْفِطْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعُ هَذَا فِي" الْبَقَرَةِ" «٢». (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أَيْ بِمَا اخْتَلَفْتُمْ فيه، وتزول الشكوك.

[[سورة المائدة (٥): آية ٤٩]]

وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا، وَأَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلتَّخْيِيرِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذِهِ دَعْوَى عَرِيضَةٌ، فَإِنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ أَرْبَعَةٌ: مِنْهَا مَعْرِفَةُ التَّارِيخِ بِتَحْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ، وَهَذَا مَجْهُولٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، فَامْتَنَعَ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُمَا نَاسِخَةٌ لِلْأُخْرَى، وَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى حَالِهِ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ النَّحَّاسِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَأَخِّرَةٌ فِي النُّزُولِ، فَتَكُونُ نَاسِخَةً إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ فِي الْكَلَامِ" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ" إِنْ شِئْتَ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّخْيِيرِ لَهُ، فَآخِرُ الْكَلَامِ حُذِفَ التَّخْيِيرُ مِنْهُ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، فَحُكْمُ التَّخْيِيرِ كَحُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَهُمَا شَرِيكَانَ وَلَيْسَ الْآخَرُ بِمُنْقَطِعٍ مِمَّا قَبْلَهُ، إِذْ لَا مَعْنَى لِذَلِكَ وَلَا يَصِحُّ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ" مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ:" وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ" وَمِنْ قَوْلِهِ:" فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ" فَمَعْنَى" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ" أَيِ احْكُمْ بِذَلِكَ إِنْ حَكَمْتَ وَاخْتَرْتَ الْحُكْمَ، فَهُوَ كُلُّهُ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، لِأَنَّ النَّاسِخَ لَا يَكُونُ مُرْتَبِطًا بِالْمَنْسُوخِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، فَالتَّخْيِيرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مُحْكَمٌ غَيْرُ منسوخ، قاله مكي رحمه اله." وَأَنِ احْكُمْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى الْكِتَابِ، أَيْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، أَيْ بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي أنزله


(١). في ع: الطبري. وهو الكيا الطبري.
(٢). راجع ج ٢ ص ٢٨٠.