قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ مَا رَوَاهُ الصَّحِيحَانِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ، فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ فَنَزَوْتُ «١» لِآخُذَهُ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ. لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ: أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ فَالْتَزَمْتُهُ وَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا، قَالَ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَبَسِّمًا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: تَبَسُّمُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا كَانَ لِمَا رَأَى مِنْ شِدَّةِ حِرْصِ ابْنِ مُغَفَّلٍ عَلَى أَخْذِ الْجِرَابِ وَمِنْ ضِنَتِهِ بِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِطَرْحِهِ وَلَا نَهَاهُ. وَعَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا كَرِهَهُ لِلْخِلَافِ فِيهِ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ تَحْرِيمَهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كُبَرَاءُ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَمُتَمَسَّكُهُمْ مَا تَقَدَّمَ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ ذَبَحُوا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ قَالَ أَصْبَغُ: مَا كَانَ مُحَرَّمًا فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ بِتَحْرِيمِهَا. وَقَالَهُ أَشْهَبُ وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَجَازَهُ ابْنُ وَهْبٍ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ، وَعَلِمْنَا ذَلِكَ مِنْ كِتَابِنَا فَلَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، وَمَا لَمْ نَعْلَمْ تَحْرِيمَهُ إِلَّا مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فَهُوَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْنَا مِنْ ذَبَائِحِهِمْ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ) أَيْ ذَلِكَ التحريم. فذلك فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ. (جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) أَيْ بِظُلْمِهِمْ، عُقُوبَةً لَهُمْ لِقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَاسْتِحْلَالِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا يَكُونُ بِذَنْبٍ، لِأَنَّهُ ضِيقٌ فَلَا يُعْدَلُ عَنِ السَّعَةِ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الْمُؤَاخَذَةِ. (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فِي إِخْبَارِنَا عَنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ عَمَّا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ اللُّحُومِ وَالشُّحُومِ.
[[سورة الأنعام (٦): آية ١٤٧]]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)
(١). النزو: الوثب.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute