مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ" وَالتَّحْلِيقُ وَالتَّقْصِيرُ جَمِيعًا لِلرِّجَالِ، وَلِذَلِكَ غَلَّبَ الْمُذَكَّرَ عَلَى الْمُؤَنَّثِ. وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ، وَلَيْسَ لِلنِّسَاءِ إِلَّا التَّقْصِيرُ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي" الْبَقَرَةِ" «١». وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَخَذَ مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَرْوَةِ بِمِشْقَصٍ. وَهَذَا كَانَ فِي الْعُمْرَةِ لَا فِي الْحَجِّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ فِي حَجَّتِهِ." لَا تَخافُونَ" حَالٌ مِنَ الْمُحَلِّقِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: غَيْرَ خَائِفِينَ." فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا" أَيْ عَلِمَ مَا فِي تَأْخِيرِ الدُّخُولِ مِنَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ مَا لَمْ تَعْلَمُوهُ أَنْتُمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَجَعَ مَضَى مِنْهَا إِلَى خَيْبَرَ فَافْتَتَحَهَا، وَرَجَعَ بِأَمْوَالِ خَيْبَرَ وَأَخَذَ مِنَ الْعُدَّةِ وَالْقُوَّةِ أَضْعَافَ مَا كَانَ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، وَأَقْبَلَ إِلَى مَكَّةَ عَلَى أُهْبَةٍ وَقُوَّةٍ وَعُدَّةٍ بِأَضْعَافِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيْ عَلِمَ أَنَّ دُخُولَهَا إِلَى سَنَةٍ وَلَمْ تَعْلَمُوهُ أَنْتُمْ. وَقِيلَ: عَلِمَ أَنَّ بِمَكَّةَ رِجَالًا مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءً مُؤْمِنَاتٍ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ." فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً" أَيْ مِنْ دُونِ رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْحَ خَيْبَرَ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ. وَقِيلَ فَتْحُ مَكَّةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَا فَتَحَ اللَّهُ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ الْقِتَالُ حِينَ تَلْتَقِي النَّاسُ، فَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَأَمِنَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَالْتَقَوْا وَتَفَاوَضُوا الْحَدِيثَ وَالْمُنَاظَرَةَ. فَلَمْ يُكَلَّمْ أَحَدٌ بِالْإِسْلَامِ يَعْقِلُ شَيْئًا إِلَّا دَخَلَ فِيهِ، فَلَقَدْ دخل تَيْنِكَ السَّنَتَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُ مَا كَانَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ. يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا سَنَةَ سِتٍّ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَكَانُوا بَعْدَ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ ثمان في عشرة آلاف.
[[سورة الفتح (٤٨): آية ٢٨]]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٢٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ" يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ" أَيْ يُعْلِيهِ عَلَى كُلِّ الْأَدْيَانِ. فَالدِّينُ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ،
(١). راجع ج ٢ ص ٣٨١ طبعه ثانية.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute