للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مِنَ الْعُصَاةِ مِنْ عَبِيدِهِ وَكَفَرَتِهِمْ، وَقَدْ يُرْسِلُهُ شَهَادَةً وَرَحْمَةً لِلصَّالِحِينَ، كَمَا قَالَ مُعَاذٌ فِي طَاعُونِ عَمْوَاسَ «١»: إِنَّهُ شَهَادَةٌ وَرَحْمَةٌ لَكُمْ وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمُ، اللَّهُمَّ أَعْطِ مُعَاذًا وَأَهْلَهُ نَصِيبَهُمْ مِنْ رَحْمَتِكَ. فَطُعِنَ فِي كَفِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: قَدْ عَرَفْتُ الشَّهَادَةَ وَالرَّحْمَةَ وَلَمْ أَعْرِفْ مَا دَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ؟ فَسَأَلْتُ عَنْهَا فَقِيلَ: دَعَا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُجْعَلَ فَنَاءُ أُمَّتِهِ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ حِينَ دَعَا أَلَّا يُجْعَلَ بَأْسُ أُمَّتِهِ بَيْنَهُمْ فَمُنِعَهَا فَدَعَا بِهَذَا. وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" الْفَارُّ مِنَ الطَّاعُونِ كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ وَالصَّابِرُ فِيهِ كَالصَّابِرِ فِي الزَّحْفِ". وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كتب الله له إلا كان له مثله أَجْرِ الشَّهِيدِ". وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:" الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ". أَيِ الصَّابِرُ عَلَيْهِ الْمُحْتَسِبُ أَجْرَهُ عَلَى اللَّهِ الْعَالِمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ تَمَنَّى مُعَاذٌ أَنْ يَمُوتَ فِيهِ لِعِلْمِهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَأَمَّا مَنْ جَزِعَ مِنَ الطَّاعُونِ وَكَرِهَهُ وَفَرَّ مِنْهُ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ أَحَدًا مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ فَرَّ مِنَ الطَّاعُونِ إِلَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَدَائِنِيِّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ هَرَبَ مِنَ الطَّاعُونِ إِلَى السَّيَالَةِ «٢» فَكَانَ يُجَمِّعُ كُلَّ جُمُعَةٍ وَيَرْجِعُ، فَكَانَ إِذَا جَمَّعَ صَاحُوا بِهِ: فَرَّ مِنَ الطَّاعُونِ! فَمَاتَ بِالسَّيَالَةِ. قَالَ: وَهَرَبَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَرِبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ إِلَى الرِّبَاطِيَّةِ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الْفُقَيْمِيُّ فِي ذَلِكَ:

وَلَمَّا اسْتَفَزَّ الْمَوْتُ كُلَّ مُكَذِّبٍ ... صَبَرْتُ وَلَمْ يَصْبِرْ رِبَاطٌ ولا عمرو


(١). عمواس (روى بكسر أوله وسكون ثانيه، وروى بفتح أوله وثانيه وآخره سين مهملة): كورة من فلسطين بالقرب من بيت المقدس، ومنها كان ابتداء الطاعون في أيام عمر رضى الله عنه، ثم فشا في أرض الشام فمات منه خلق كثير لا يحصون من الصحابة رضى الله عنهم ومن غيرهم، وذلك في سنة ١٨ للهجرة.
(٢). السيالة (بفتح أوله وتخفيف ثانيه): موضع بقرب المدينة، وهى أول مرحلة لأهل المدينة إذا أرادوا مكة. وقيل: هي بين ملل والروحاء في طريق مكة إلى المدينة (عن شرح القاموس).