للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الثَّانِيَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي [مَعْنَى «١»] هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: (الْأَوَّلُ) قِيلَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَكْرَهَ الْعَرَبَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَقَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ، قَالَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: نَسَخَتْهَا" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ «٢» ". وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. (الثَّانِي) لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، وَأَنَّهُمْ لَا يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ، وَالَّذِينَ يُكْرَهُونَ أَهْلُ الْأَوْثَانِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ فَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ". هَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ. وَالْحُجَّةُ لِهَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِعَجُوزٍ نَصْرَانِيَّةٍ: أَسْلِمِي أَيَّتُهَا الْعَجُوزُ تَسْلَمِي، إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ. قَالَتْ: أَنَا عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ وَالْمَوْتُ إِلَيَّ قَرِيبٌ! فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، وَتَلَا" لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ". (الثَّالِثُ) مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ فِي الْأَنْصَارِ، كَانَتْ تَكُونُ الْمَرْأَةُ مِقْلَاتًا فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ كَثِيرٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ". قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَالْمِقْلَاتُ الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ. فِي رِوَايَةٍ: إِنَّمَا فَعَلْنَا مَا فَعَلْنَا وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ دِينَهُمْ أَفْضَلُ مِمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِذَا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَنُكْرِهُهُمْ عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ:" لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ" مَنْ شَاءَ الْتَحَقَ بِهِمْ وَمَنْ شَاءَ دَخَلَ في الإسلام. وهذا قول سعيد ابن جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: كَانَ سَبَبَ كَوْنِهِمْ فِي بَنِي النَّضِيرِ الِاسْتِرْضَاعُ. قَالَ النَّحَّاسُ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْلَى الْأَقْوَالِ لِصِحَّةِ إِسْنَادِهِ، وَأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُؤْخَذُ بِالرَّأْيِ. (الرَّابِعُ) قَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو حُصَيْنٍ كَانَ لَهُ ابْنَانِ، فَقَدِمَ تُجَّارٌ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ يَحْمِلُونَ الزَّيْتَ، فَلَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ أَتَاهُمُ ابْنَا الْحُصَيْنِ فَدَعَوْهُمَا إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ فَتَنَصَّرَا وَمَضَيَا مَعَهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَأَتَى أَبُوهُمَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْتَكِيًا أَمْرَهُمَا، وَرَغِبَ فِي أَنْ يَبْعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَرُدُّهُمَا فَنَزَلَتْ:" لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ"


(١). في هـ وج وب.
(٢). راجع ج ٨ ص ٢٤٠