للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ مِمَّنْ يَأْتِيهِ أَقْبَحُ مِمَّنْ لَا يَأْتِيهِ، وَلِذَلِكَ يَدُورُ فِي جَهَنَّمَ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ" «١». الرَّابِعَةُ- أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْمُنْكَرَ وَاجِبٌ تَغْيِيرُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَلْحَقْهُ بِتَغْيِيرِهِ إِلَّا اللَّوْمُ الَّذِي لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْأَذَى فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ تَغْيِيرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لم يقدر فيقلبه لَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ سِوَى ذَلِكَ. قَالَ: وَالْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَلَكِنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِالِاسْتِطَاعَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا يُكَلَّمُ مُؤْمِنٌ يُرْجَى أَوْ جَاهِلٌ يُعَلَّمُ، فَأَمَّا مَنْ وَضَعَ سَيْفَهُ أَوْ سَوْطَهُ فَقَالَ: اتَّقِنِي اتَّقِنِي فَمَا لَكَ وَلَهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: بِحَسْبِ الْمَرْءِ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا لَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ كَارِهٌ. وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا إِذْلَالُهُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: (يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يَقُومُ لَهُ). قُلْتُ: وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ جُنْدَبٍ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكِلَاهُمَا قَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا لَا يَسْتَطِيعُ النَّكِيرَ عَلَيْهِ فَلْيَقُلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا مُنْكَرٌ" فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ فَعَلَ مَا عَلَيْهِ، وَزَعَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ مَنْ رَجَا زَوَالَهُ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تَغْيِيرِهِ الضَّرْبَ أَوِ الْقَتْلَ جَازَ لَهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ الِاقْتِحَامُ عِنْدَ هَذَا الْغَرَرِ «٢»، وَإِنْ لَمْ يَرْجُ زَوَالَهُ فَأَيُّ فَائِدَةٍ عِنْدَهُ. قَالَ: وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ النِّيَّةَ إِذَا خَلَصَتْ فَلْيَقْتَحِمْ كَيْفَ مَا كَانَ وَلَا يُبَالِي. قُلْتُ: هَذَا خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ مِنَ الْإِجْمَاعِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ خَوْفِ الْقَتْلِ. وَقَالَ تَعَالَى:" وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ" «٣». وهذا إشارة إلى الاذاية.


(١). راجع ج ١ ص ٢٦٥. [ ..... ]
(٢). الغرر: الخطر. المصباح.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٦٨.