للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَمِنْهُ: رَجُلٌ كَظِيمٌ وَمَكْظُومٌ إِذَا كَانَ مُمْتَلِئًا غَمًّا وَحُزْنًا. وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ" [يوسف:] «١»." ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ" [النحل: [." إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ" [القلم: [. وَالْغَيْظُ أَصْلُ الْغَضَبِ، وَكَثِيرًا مَا يَتَلَازَمَانِ لَكِنَّ فُرْقَانَ مَا بَيْنَهُمَا، أَنَّ الْغَيْظَ لَا يَظْهَرُ عَلَى الْجَوَارِحِ، بِخِلَافِ الْغَضَبِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ فِي الجوارح مع فعل ما لأبد، وَلِهَذَا جَاءَ «٢» إِسْنَادُ الْغَضَبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَفْعَالِهِ فِي الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ النَّاسِ الْغَيْظَ بِالْغَضَبِ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) الْعَفْوُ عَنِ النَّاسِ أَجَلُّ ضُرُوبِ فِعْلِ الْخَيْرِ، حَيْثُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْفُوَ وَحَيْثُ يَتَّجِهُ حَقُّهُ. وَكُلُّ مَنِ اسْتَحَقَّ عُقُوبَةً فَتُرِكَتْ لَهُ فَقَدْ عُفِيَ عَنْهُ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى" عَنِ النَّاسِ"، فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْكَلْبِيُّ وَالزَّجَّاجُ:" وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ" يُرِيدُ عَنِ الْمَمَالِيكِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا حَسَنٌ عَلَى جِهَةِ الْمِثَالِ، إِذْ هُمُ الْخَدَمَةُ فَهُمْ يُذْنِبُونَ كَثِيرًا وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِمْ مُتَيَسِّرَةٌ، وَإِنْفَاذُ الْعُقُوبَةِ سَهْلٌ، فَلِذَلِكَ مَثَّلَ هَذَا الْمُفَسِّرُ بِهِ. وَرُوِيَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ أَنَّ جَارِيَتَهُ جَاءَتْ ذَاتَ يَوْمٍ بِصَحْفَةٍ فِيهَا مَرَقَةٌ حَارَّةٌ، وَعِنْدَهُ أَضْيَافٌ فَعَثَرَتْ فَصَبَّتِ الْمَرَقَةَ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ مَيْمُونٌ أَنْ يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قول الله تَعَالَى:" وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ". قَالَ لَهَا: قَدْ فَعَلْتُ. فَقَالَتْ: اعْمَلْ بِمَا بَعْدَهُ" وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ". فَقَالَ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْكِ. فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ:" وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". قَالَ مَيْمُونٌ: قَدْ أَحْسَنْتُ إِلَيْكِ، فَأَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى. وَرُوِيَ عَنِ الأحنف بن قيس مثله. وقال زيد ابن سلم:" وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ" عَنْ ظُلْمِهِمْ وَإِسَاءَتِهِمْ «٣». وَهَذَا عَامٌّ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: (إِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أُمَّتِي قَلِيلٌ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَقَدْ كَانُوا كَثِيرًا فِي الْأُمَمِ الَّتِي مَضَتْ). فَمَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ يَغْفِرُونَ عِنْدَ الْغَضَبِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فَقَالَ:" وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ" [الشورى: ٣٧] «٤»، وَأَثْنَى عَلَى الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ بِقَوْلِهِ:" وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ"، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ بِإِحْسَانِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَوَرَدَتْ فِي كَظْمِ الْغَيْظِ وَالْعَفْوِ عَنِ النَّاسِ وَمِلْكِ النَّفْسِ عِنْدَ الْغَضَبِ أَحَادِيثُ، وَذَلِكَ مِنْ


(١). راجع ج ٩ ص ٢٤٧ وج ١٠ ص ١١٦ وج ١٨ ص ٢٥٢.
(٢). في د: جاز.
(٣). في هـ: عمن ظلمهم وأساء إليهم.
(٤). راجع ج ١٦ ص ٣٥.