عَلَى إِهْلَاكِهِمْ، وَإِنَّمَا يَطُولُ أَعْمَارُهُمْ لِيَعْمَلُوا بِالْمَعَاصِي، لَا لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ. وَيُقَالُ:" أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ" بِمَا أَصَابُوا مِنَ الظَّفَرِ يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خَيْرًا لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِيَزْدَادُوا عُقُوبَةً. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ بَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ إِلَّا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ بَرًّا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ" [آل عمران: ١٩٨] «١» وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ: (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ" لَا يَحْسَبَنَّ" بِالْيَاءِ وَنَصْبِ السِّينِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: بِالتَّاءِ وَنَصْبِ السِّينِ. وَالْبَاقُونَ: بِالْيَاءِ وَكَسْرِ السِّينِ. فَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَالَّذِينَ فَاعِلُونَ. أَيْ فَلَا يَحَسَبَنَّ الْكُفَّارُ. وَ" أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ" تسد مسد المفعولين. و" أَنَّما" بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَ" خَيْرٌ" خَبَرُ" أَنَّ". وَيَجُوزُ أَنْ تُقَدَّرَ" مَا" وَالْفِعْلُ مَصْدَرًا، وَالتَّقْدِيرُ وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ إِمْلَاءَنَا لهم خير لأنفسهم. ومن قرأ بالتاء فالفاعل هُوَ الْمُخَاطَبُ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَ" الَّذِينَ" نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ لِتَحْسَبَ. وَأَنَّ وَمَا بَعْدَهَا بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ، وَهِيَ تَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، كَمَا تَسُدُّ لَوْ لَمْ تَكُنْ بَدَلًا. وَلَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ" أَنَّ" وَمَا بَعْدَهَا مَفْعُولًا ثَانِيًا لِتَحْسَبُ، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ حَسِبَ وَأَخَوَاتَهَا دَاخِلَةٌ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ، وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ. هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَوْ صَحَّ هَذَا لَقَالَ" خَيْرًا" بِالنَّصْبِ، لِأَنَّ" أَنَّ" تَصِيرُ بَدَلًا مِنَ" الَّذِينَ كَفَرُوا"، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَحْسَبَنَّ إِمْلَاءَ الَّذِينَ كَفَرُوا خَيْرًا، فَقَوْلُهُ" خَيْرًا" هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِحَسِبَ. فَإِذًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ" لَا تَحْسَبَنَّ" بِالتَّاءِ إِلَّا أَنْ تُكْسَرَ" إِنَّ" فِي" أَنَّما" وَتُنْصَبَ خَيْرًا، وَلَمْ يُرْوَ ذَلِكَ عَنْ حَمْزَةَ، وَالْقِرَاءَةُ عَنْ حَمْزَةَ بِالتَّاءِ، فَلَا تَصِحُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ إِذًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ: قِرَاءَةُ حَمْزَةَ جَائِزَةٌ عَلَى التَّكْرِيرِ، تَقْدِيرُهُ وَلَا تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُوا، وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرًا، فَسَدَّتْ" أَنَّ" مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ لِتَحْسَبُ الثَّانِي، وَهِيَ وَمَا عَمِلَتْ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِتَحْسَبُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ فِي دَعْوَى الْبَدَلِ، وَالْقِرَاءَةُ صَحِيحَةٌ. فَإِذًا غَرَضُ أَبِي عَلِيٍّ تَغْلِيطُ الزَّجَّاجِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَزَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ بِالتَّاءِ هُنَا، وَقَوْلَهُ:" وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ" [آل عمران: ١٨٠] لَحْنٌ لَا يَجُوزُ. وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ.
(١). راجع ص ٣٢٢ من هذا الجزء.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute