للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقِيلَ: كَانَ أَمْرُ الْقَرَابِينِ ثَابِتًا إِلَى أَنْ نسخت على لسان عيسى بن مَرْيَمَ. وَكَانَ النَّبِيُّ مِنْهُمْ يَذْبَحُ وَيَدْعُو فَتَنْزِلُ نَارٌ بَيْضَاءُ لَهَا دَوِيٌّ وَحَفِيفٌ لَا دُخَانَ لَهَا، فَتَأْكُلُ الْقُرْبَانَ. فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ دَعْوَى مِنَ الْيَهُودِ، إِذْ كَانَ ثَمَّ اسْتِثْنَاءٌ فَأَخْفَوْهُ، أَوْ نُسِخَ، فَكَانُوا فِي تَمَسُّكِهِمْ بِذَلِكَ مُتَعَنِّتِينَ، وَمُعْجِزَاتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فِي إِبْطَالِ دَعْوَاهُمْ، وَكَذَلِكَ مُعْجِزَاتُ عِيسَى، وَمَنْ وَجَبَ صِدْقُهُ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ: (قُلْ) يَا مُحَمَّدُ (قَدْ جاءَكُمْ) يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ (رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) مِنَ الْقُرْبَانِ (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يَعْنِي زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَشَعْيَا، وَسَائِرَ مَنْ قَتَلُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِمْ. أَرَادَ بِذَلِكَ أَسْلَافَهُمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي تَلَاهَا عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَاحْتَجَّ بِهَا عَلَى الَّذِي حَسَّنَ قَتْلَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ. وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْيَهُودَ قَتَلَةً لِرِضَاهُمْ بِفِعْلِ أَسْلَافِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ نَحْوٌ مِنْ سَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ. وَالْقُرْبَانُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ نُسُكٍ «١» وَصَدَقَةٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ، وَهُوَ فَعْلَانُ مِنَ الْقُرْبَةِ. وَيَكُونُ اسْمًا وَمَصْدَرًا، فَمِثَالُ الِاسْمِ السُّلْطَانُ وَالْبُرْهَانُ. وَالْمَصْدَرُ الْعُدْوَانُ والخسران. وكان عيسى ابن عُمَرَ يَقْرَأُ" بِقُرْبانٍ" بِضَمِ الرَّاءِ إِتْبَاعًا لِضَمَّةِ الْقَافِ، كَمَا قِيلَ فِي جَمْعِ ظُلْمَةٍ: ظُلُمَاتٌ، وَفِي حُجْرَةٍ حُجُرَاتٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُعَزِّيًا لِنَبِيِّهِ وَمُؤْنِسًا لَهُ. (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) أَيْ بِالدِّلَالَاتِ. (وَالزُّبُرِ) أَيِ الْكُتُبِ الْمَزْبُورَةِ، يَعْنِي الْمَكْتُوبَةَ. وَالزُّبُرُ جَمْعُ زَبُورٍ وَهُوَ الْكِتَابُ. وَأَصْلُهُ مِنْ زَبَرْتُ أَيْ كَتَبْتُ. وَكُلُّ زَبُورٍ فَهُوَ كِتَابٌ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي كَخَطِّ زَبُورٍ فِي عَسِيبِ «٢» يَمَانِي وَأَنَا أَعْرِفُ تَزْبِرَتِي أَيْ كِتَابَتِي. وَقِيلَ: الزَّبُورُ مِنَ الزَّبْرِ بِمَعْنَى الزَّجْرِ. وَزَبَرْتُ الرَّجُلَ انْتَهَرْتُهُ. وَزَبَرْتُ الْبِئْرَ: طَوَيْتُهَا بِالْحِجَارَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ" بِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ" بِزِيَادَةِ بَاءٍ فِي الْكَلِمَتَيْنِ «٣». وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفَ أَهْلِ الشَّامِ. (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي الواضح المضي، مِنْ قَوْلِكَ: أَنَرْتُ الشَّيْءَ أُنِيرُهُ، أَيْ أَوْضَحْتُهُ: يُقَالُ: نَارَ الشَّيْءَ وَأَنَارَهُ وَنَوَّرَهُ وَاسْتَنَارَهُ بِمَعْنًى،


(١). في هـ وط: نسيكة.
(٢). العسيب: سعف النخل الذي جرد عنه خوصة، وهى الجريدة.
(٣). في ط وب: في الحرفين.